الثبات - إسلاميات
مساعدة الفقراء أم نافلة الحج والعمرة؟
الحج والعمرة شعيرتان إسلاميتان تشتملان على عبادات متعددة؛ منها البدنية: كالطواف والسعي والصلاة والصيام، ومنها المالية: كالنفقة والفدية والهدي، ومنها القولية: كالتلبية والذكر والدعاء؛ فالتطوع بهما من هذا الوجه أفضل -عند بعض الفقهاء- من صدقة النفل؛ لأنهما يشملانها ويزيدان عليها. ولأجل ذلك جاءت الأحاديث النبوية الشريفة باستحباب المتابعة بين الحج والعمرة:
روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ"؛ وذلك لِمَا فيهما من تنوع العبادات وتعدُّدها وبذل الجهد في تحصيلها.
غير أن هذه الأحاديث الشريفة إنما تتناول استحباب التطوع بالحج والعمرة عند انتفاء المعارض وعدم تزاحم الحقوق في أموال المكلفين، ولم يكن تكرار الحج والعمرة متعارضًا مع كفاية الفقراء وإنعاش الاقتصاد، فأما إذا تكاثرت الحقوق وتزاحمت واشتدت الحاجة إلى أموال الأغنياء لمواساة الفقراء ونجدة المحتاجين، وكانت نفقات الحج والعمرة باهظة التكاليف بحيث لو أُنفِقَت على الفقراء لقامت بكفايتهم وأصلحت أحوالهم، فإن أحب النفقة إلى الله تعالى حينئذٍ هو ما كان أنفع للناس وأجدى في صلاح أحوالهم وإنعاش اقتصادهم؛ كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا، وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ -وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ- مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ أَمْنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَها لَهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ".
كما أنَّ هذا التفضيل الوارد عن بعض السلف ليس على إطلاقه، فهو يتناول الصدقة من حيث هي نفقةٌ يوجد مثلُها في الحج، ولا نظرَ فيها لحال المتصدَّق عليه، أمَّا مِن حيث كونُها عبادةً متعديةَ النفع فهي أفضل من حج التطوع وعمرته؛ لأنها قد تكون لكفاية محتاج أو لسد دين مدينٍ، وذلك بخلاف حج التطوع وعمرة التطوع؛ فنفعهما قاصر على صاحبهما.
وقد راعى الشرع الإسلامي ترتيب الأولويات؛ فأمر عند التعارض بتقديم المصلحة المتعدية على القاصرة، والعامة على الخاصة، والناجزة على المتوقعة، والمتيقنة على الموهومة.
- وقد نص جماعةٌ من السلف الصالح على أن الصدقة أفضل من التطوع بالحج والعمرة؛ لأن الصدقة عبادة متعدية أما الحج والعمرة تطوعًا فعبادتان قاصرتان على صاحبهما:
-عن سيدنا الحسين بن علي عليهما السلام قال: "لَأَنْ أَقُوتَ أَهْلَ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ صَاعًا كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ كُلَّ يَوْمٍ صَاعَيْنِ شَهْرًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَجَّةٍ فِي إِثْرِ حَجَّةٍ".
-عن سفيان الثوري، أنه سأله رجل فقال: الحج أفضل بعد الفريضة أم الصدقة؟ فقال: أخبرني أبو مسكين، عن إبراهيم النخعي أنه قال: "إذا حجَّ حِجَجًا، فالصَّدَقَةُ". وكان الحسن يقول: "إذا حج حجَّةً".
-عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: "يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَحُجُّ أَحُجُّ، قَدْ حَجَجْتَ، صِلْ رَحِمًا، نَفِّسْ عَنْ مَغْمُومٍ، أَحْسِنْ إِلَى جَارٍ".
وأخرج أيضًا عن الشعبي قال: جاء أمضى حرانة فقال: إني قد تهيأتُ للخروج، ولي جيران محتاجون متعففون، فما ترى إلى جعل كراي وجهازي فيهم، أو أمضي لوجهي للحج؟ فقال: "والله إن الصدقة يعظم أجرها، وما تعدل عندي موقفًا من المواقف، أو شيئًا من الأشياء".
كلام الفقهاء بهذه المسألة:
المذهب الحنفي:
قال العلامة ابن عابدين الحنفي معلقًا عليه في حاشيته "رد المحتار": [(قوله ورجح في "البزازية" أفضلية الحج)؛ حيث قال: الصدقة أفضل من الحج تطوعًا، كذا روي عن الإمام، لكنه لَمَّا حج وعرف المشقة أفتى بأن الحج أفضل، ومراده: أنه لو حج نفلًا وأنفق ألفًا فلو تصدق بهذه الألف على المحاويج فهو أفضل، لا أن يكون صدقة؛ فليس أفضل من إنفاق ألف في سبيل الله تعالى، والمشقة في الحج لَمَّا كانت عائدة إلى المال والبدن جميعًا فُضِّل في المختار على الصدقة. اهـ.
المذهب المالكي:
قال العلامة ابن رشد المالكي [ت520هـ] في "البيان والتحصيل" (: [وإنما قال: إن الحج أحب إليه من الصدقة، إلا أن تكون سنة مجاعة؛ لأنه إذا كانت سنة مجاعة، كانت عليه المواساة، فالصدقة واجبة، فإذا لم يُواسِ الرجلُ في سنة المجاعة مِن ماله بالقدر الذي يجب عليه المواساةُ في الجملة، فقد أثم، وقدرُ ذلك لا يعلمه حقيقةً؛ فالتوقي من الإثم بالإكثار من الصدقة، أولى من التطوع بالحج الذي لا يأثم بتركه] اهـ.
وعند الشافعية:
قال الإمام الزركشي الشافعي في "البحر المحيط: [قال العبادي في "فتاويه": الصدقة أفضل من حج التطوع في قول أبي حنيفة، وهي تُحتَمَل في هذا الزمان] اهـ.
وعند الحنابلة:
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "تصحيح الفروع": [مسألة: قوله: وهل حج التطوع أفضل من الصدقة مطلقًا؟ أم الصدقة مع الحاجة؟ أم مع الحاجة على القريب؟ أم على القريب مطلقًا؟ روايات أربع. وفي "المستوعب": وصيته بالصدقة أفضل من وصيته بحج التطوع، فيؤخذ منه أن الصدقة أفضل بلا حاجة. قال الشيخ تقي الدين: الحج أفضل من الصدقة، وإنه مذهب أحمد. وقال ابن الجوزي في كتاب "الصفوة": الصدقة أفضل من الحج ومن الجهاد، انتهى.
قلت: الصواب أن الصدقة زمن المجاعة على المحاويج أفضل، لا سيما الجار، خصوصًا صاحب العائلة، وأخص من ذلك القرابة، فهذا فيما يظهر لا يَعْدِلُه الحجُّ التطوع، بل النفس تقطع بهذا، وهذا نفع عام، وهو متعدٍّ، وهو قاصر، وهو ظاهر كلام المجد في "شرحه" وغيره. وأما الصدقة مطلقًا، أو على القريب غير المحتاج:
ولا يجوز للواجدين إهمالُ المعوزين تحت مبرر الإكثار من النوافل والطاعات؛ فإنه لا يجوز ترك الواجبات لتحصيل المستحبات، ولا يسوغ التشاغل بالعبادات القاصرة ذات النفع الخاص، وبذل الأوقات والأموال فيها، على حساب القيام بالعبادات المتعدية ذات المصلحة العامة، وعلى مريد التطوع بالحج والعمرة السعيُ في بذل ماله في كفاية الفقراء، وسد حاجات المساكين، وقضاء ديون الغارمين، قبل بذله في تطوع العبادات، كما أن تقديم سد حاجات المحتاجين وإعطاء المعوزين على التطوع بالحج أو العمرة ينيل فاعلها ثواب الأمرين معًا.
المصدر: دار الإفتاء المصرية