الثبات ـ تصوف
بعد انتشار وتفشي الجفاف الروحي في عصرنا، كان لا بد لنا من الحديث عن أنغام المحبين و مواجيد العاشقين الذين اتصلت أرواحهم برب العالمين، فجعلوا من شعرهم ترجمان لما تكنه صدورهم من المعاني القدسية وآهات الخوف من القطيعة عن الذات الأحدية، نعم انهم السادة الصوفية .
يعتبر الشعر الصوفي أحد أنواع الأدب الصوفي وهو شعر روحي وجداني ظهر بعد شعر الزهد والوعظ، بعد انتشار مظاهر التقوى بين الفقهاء والمحدثين والأدباء، وبلغ هذا النوع من الشعر ذروته في الشعر العربي مع ابن الفارض وابن العربي واتضحت معالمه في القرن الثالث الهجري في النصف الأول منه على وجه التحديد، ومن أشهر الشعراء المتصوفين جلال الدين الرومي وأحمد بدوي وشهاب الدين ابن الخيمي والحلاج وعفيف الدين التلمساني إضافةً إلى الزاهدة التقية السيدة رابعة العدوية .
"عرفت الهوى" للسيدة رابعة العدوية التي عاشت فى القرن الثانى للهجرة، والتي عرفت بشهيدة العشق الإلهى، ونظمت أجمل أبيات قالها انسان في حبه لربه ..
من ناحية المعنى على لسان السيدة رابعة أنها عرفت الحب منذ أن عرفت حبيبها ومعشوق روحها، كما قفلت كل باب لقلبها سوى بابه تكلمه وتناجيه هو لوحده، هو الذي يعلم القلوب والسرائر، تقول في مطلعها:
عـرفتُ الهـوى مُذ عَرفتُ هـواكَ وأغـلـقـتُ قلـبـى عـمـن سـواك
وقمت أناجيـــك يــــا من تــرى خـفـايــــا الـقـلـوب ولســـــنـا نـــراكَ
تبدأ أبيات السيدة رابعة أجمل ما قيل فى العشق الإلهى، تقول لحبيبها الله سبحانه وتعالى: أحبك نوعين من الحب، الاول هو حب الهوى والمقصود به هنا العشق المعروف بين الناس، والنوع الاخر من الحب هو الحب الالهي بين العبد لخالقه، الذي هو وحده أهلٌ لذلك الحب، فأما الحب الأول فيبان فى إنى دائمة الشغل بذكرك ولا أفكر بأحد سواك، وأما الحب الثاني الذي تستحقه أنت فقط، فلأنك كشفت لى الحجب كلها، لغاية ما رأيتك في كل شيء ونزهتك عن النقص، ثم تختم أبياتها لتخبرنا أن الفضل فى ذلك كلله والشكر كله ليس لها هى، لكن الفضل كله لله الذي منحها تلك الجوهرة من النور ووضعها في قلبها :
أحبـــــك حـــبــيـــن حـــب الــــــهـــــوى وحــبــــا لأنـــك أهـــــــل لـــذاك
فــأما الــذى هــو حب الهــــوى فشـغلـى بـذكـرك عـمـــن ســـــواك
وأمـــا الـــــذى أنــت أهــل لــــه فكـشــــفـــــك للـحـجـب حـتـــى أراك
فـلا الحـمد فـى ذا ولا ذاك لـــى ولـكـن لك الـحـمـد فـى ذا وذاك
وأشتـاق شوقيـن شوق النـوى وشـوقا لقرب الخطــى من حمـاك
فأمـا الــذى هــو شــــوق النــوى فمســــرى الدمــوع لطــول نـواك
وأمــا اشــتيـــاق لقـــرب الحمــــــى فنــــار حيـــاة خبت فــى ضيــاك
ثم يختم على لسان السيدة رابعة: أنا لا أشتكي الهوى من الحزن، بل إني راضية بكل ما قدرته وقسمته لي وهديتني اليه يا سيدي :
ولست على الشجو أشكو الهوى رضيت بما شئت لـى فـى هداك
ليبين لنا أن الرضا هو مفتاح الحب الإلهى، الرضا الذي لا يملكه إلا أصحاب القلوب الصافية، الذين كلما تقربوا من الله خطوة زادهم الله قرباً إليه خطوات، وزادهم من حبه وجعلهم مباركين أينما حلّوا ونزلوا، نسأل الله أن يجعلنا منهم ويجمعنا عليهم وبهم .