الثبات ـ إسلاميات
هكذا يكون الفتح وإلَّا فلا
اختصرتُها من كُتُب الثقات، وأردتُ نشرها على الصفحة الكريمة راجياً من الزائرين الأكارم قراءتها بتمعُّنٍ ووعي، آملاً أن يُدركوا يقيناً: ما يجبُ أن يكونَ عليه المسلم في حربه وسلمه وحياته كلها، فيا أيها المسلمُون: الإسلامُ دينُ الرَّحمة والرِّفق والمسامحة والعَطاء والحِوار والعهد و... وليعلم الجميع أنه لا خلاص لنا وللعالم كلِّه من هذا الذي ألمَّ به: من قلقٍ واضطرابٍ وإرهابٍ وعنصريةٍ ونازيَّةٍ إلا بالرَّحمة والتَّراحم والسَّماحة والتَّسامح، وأن يقول كلنا لكلِّنا اذهبوا فأنتم الطلقاء.
غزوة الفتح
أسفر صُلحُ الحديبية عن اتفاقٍ كان من جملة بُنوده:
أنَّه من أحبَّ أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل، ومن أحبَّ أن يدخل في عقد قريش وعهدها فليفعل. فدخلت بنو بكر في حلف قريش، ودخلت خزاعة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن قريشاً وحليفَتها من بني بكر خانُوا العهد وهاجموا خزاعة وقاتلوهم، فأرسلت خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمْراً بن سالم الخزاعي، فجاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فوقف أمامَه وقال:
ياربِّ إني ناشدٌ محمَّداً ... حِلفَ أبيه وأبينَا الأتلَدَا
هم بيَّتونا بالوتير هُجَّداً ... وقتلونا رُكَّعاً وسجَّداً
فانْصُر هَدَاك الله نصراً أبداً ... وادعُ عبادَ الله يأتوا مدداً
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نُصِرتَ ياعمرو.
ولكنَّ قريشاً، وقد شعرت بخطئها، أرسلتْ أبا سفيان محاولاً الصُّلح فلم يفلح، واستشفع أبا بكر رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفعل، وكذلك طلب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يفعل، بل قال له: أأنا أشفعُ لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به. وطلب أبو سفيان كذلك من علي كرَّم الله وجهه، فلَقي منه شِبهَ ما لَقِيَ من صاحبيه، وعاد إلى قريش بخُفَّي حُنين.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ أن يتجهَّزوا، وأعلمهم أنه سائرٌ إلى مكّة، وطلب أن يُحاط مسيره بالسِّر، ثم دعا الله فقال: "اللهمَّ خُذ العيونَ والأخبار عن قريش، حتى نَبْغَتها في بلدها". ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العزم قام رجلٌ يُدعَى حاطب بن أبي بلتعة، وهو من المهاجرين البدريِّين ولم يكن من قريش، فكتب كتاباً وبعثه مع امرأة مُشركة يخبرهم بمسيرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتَّخذ بذلك عندهم يداً، فأطلع الله رسوله على ذلك، فبعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب المرأة وقال لعلي كرَّم الله وجهه ولأبي مَرثد والزبير رضي الله عنهما: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأةً من المشركين معها كتابٌ من حاطب إلى المشركين". فأدركوها فأخذوا منها الكتاب وعادوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسولَ الله، إن حاطباً قد خانَ الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضربنَّ عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس من أهل بدر؟ وما يُدريك يا عمر لعلَّ الله اطَّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ماشئتم فقد غفرتُ لكم". فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
وفي ذلك نزل قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي).
وكان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الأربعاء لعشر ليالٍ مَضينَ من رمضان، واستخلف على المدينة كلثوم بن حُصين الغفاري، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه، حتى إذا كانوا بماءٍ يُدعى كديد، أفطرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطروا.
ثم تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيرته حتى وصل مرَّ الظهران فنزلَ فيها وقد عُمِّيت الأخبار عن قريش، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبُدَيل بن ورقاء يتحسَّسون الأخبار وينظرون. ولما رأى العباس أبا سفيان راح يكلِّمه في مصيره ومصير قريش ويخوِّفه إن لم توادع قريش محمَّداً صلى الله عليه وسلم، وسأل أبو سفيان العباسَ قائلاً: ما الحيلة ؟ فقال له العباس: تعالَ. ثم أردفه خلفه على بغلةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عمر بعدهما وقد رآهما، فقال عمر: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكَنَ الله منه بغير عقدٍ ولا عهدٍ، فدعني فلأضربْ عنقه.
فقال العباس: يا رسول الله قد أجرْتُه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباس، اذهب إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتِني به".
فلمَّا أصبحا جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال له: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأنِ لك أن تعلمَ أنه لا إله إلا الله ؟!".
فقال أبو سفيان: والله لقد ظننتُ أن لو كان مع الله غيرُه لقد أغنى عنِّي شيئاً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأنِ لك أن تعلم أني رسول الله ؟!".
فقال أبو سفيان: أمَّا هذه فوَالله إنَّ في النفس منها شيئاً.
فقال العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمّداً رسول الله قبل أن تُضرَبَ عنقك.
فأسلم أبو سفيان، فقال العباس: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجلٌ يحبُّ الفخر فاجعَل له شيئاً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجدَ الحرام فهو آمن".
فلمَّا ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عندَ خطم الجبل حتى تمرَّ به جنود الله فيراها". قال العباس: فخرجتُ حتى حبستُه بمضيق الوادي، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ أحبسه، ومرَّت القبائل على راياتها، كلَّما مرَّت قبيلة قال أبو سفيان: يا عباس من هذه ؟ فأقول: سُليم. فيقول: مالي ولسُليم. ثم تمرُّ القبيلة فيقول: يا عباس من هذه ؟ فأقول: مزينة. فيقول: مالي ولمزينة. حتى نفدت القبائل كلها، إلى أن مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحَدَقُ من الحديد. فقال أبو سفيان: سبحان الله يا عباس من هؤلاء ؟ قال العباس: هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال أبو سفيان: ما لأحدٍ بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح مُلك ابن أخيك الغَدَاة عظيماً. فقال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، إنَّها النُّبوة. قال أبو سفيان: فنَعَم إذنْ.
وانطلق أبو سفيان مُسرعاً حتى إذا جاء قومَه صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمَّدٌ قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دارَ أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة، وأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الأدسم - أي: الرديء من الرجال - قُبِّح من طليعة القوم.
فقال أبو سفيان: ويحكم، لا تغُرَّنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكَم ما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دارَ أبي سفيان فهوَ آمنٌ. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنَّا دارك ؟ قال: ومَن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومَن دخل المسجد فهوَ آمن. فتفرَّق الناس إلى دورهم والمسجد.
وتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا انتهى إلى "ذي طوى" وقف على راحلته معتجراً "أي: مُعتمَّاً" بشقَّةٍ "أي: قطعة" بُرْدٍ "أي: رداءٍ" حِبْرَةٍ "أي: نوعٍ من قماش مصنوع في اليمن" حمراء، ثمَّ وضع رأسه تواضعاً لله، حين رأى ما أكرمه الله به، حتى إنَّ عُثنوتَه "أي: أسفل لحيته الشريفة" ليكادُ يمَسُّ واسطة رَحْله.
وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزِّع الجيش: فأمر الزبيرَ بن العوام أن يدخل في بعض الناس من "كُدَيّ"، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من "كداء"، فقال سعد وقد أخذته نشوة النصر صارخاً: اليومَ يوم الملحمة، اليوم تُستحَلُّ الحُرمَة.
ووصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بل اليوم يوم المرْحَمَة، اليومَ تُعظَّمُ الكعبة). ثم قال لعلي كرَّم الله وجهَه: (أدرِك سعداً وخذ الراية منه، فكن أنت الذي تدخل به)، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تُدفع الراية التي كانت مع سعد بن عبادة إلى ابنه قيس بن سعد رضي الله عنه تطييباً لخاطره.
وتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتابعاً، فدخل مكة المكرمة من أعلاها، وأمر قُوَّاده ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، فدخلت سائرُ الفرق من أنحاء مكة الأخرى.
بيدَ أن فئة من أهل مكة المشركين غاظهم هذا، فاجتمعوا على سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وعزموا على قتال المسلمين في مكان اجتماعهم وكان يُسمى "الخندمة". فلما لقيَهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد تناوشوا معهم القتال، فأصيب من المشركين ثلاثة عشر رجلاً، ثم ولَّوا الأدبار، وهكذا استسلمت مكة لفاتحها العظيم صلى الله عليه وسلم، فدخلها وبدأ بالبيت العتيق فحيَّاه وطاف سبعة أشواطٍ - ولم يكن مُحرماً - ثم أسند ظهره وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صَدقَ وعده ونصر عبدَه وهزَم الأحزاب وحدَه، ألا كلُّ مأثرةٍ أو دمٍ أو مالٍ يُدَّعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمها بالآباء، الناسُ من آدمَ وآدم من تراب". ثم تلا قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). الحجرات: 13.
وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم يكسر الأصنام بعودٍ في يده وهو يردد قوله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) الإسراء: 81. وبعد أن خشعت الأصوات وطأطأت الرؤوس وعَنَت الوجوه، شقَّ هذا الصَّمت الرهيب صوتُ الحبيب صلى الله عليه وسلم قائلاً: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعلٌ بكم ؟" قالوا: خيراً، أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني أقولُ لكم كما قال أخي يوسف لإخوته: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يوسف:92. "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وحضر وقت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً رضي الله عنه أن يرتقيَ على ظهر الكعبة ويؤذِّن، فلم يعجب ذلك كثيراً من الطُّلقاء، حتى قال بعضهم: أهذا العبد الأسودُ يؤذن على ظهر الكعبة ؟! وقال آخرون: أهذا الغراب يؤذِّن عليها ؟!
وخشيَ الأنصار أن يُقيمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكَّة بعد فتحها ويتركَ المدينة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصَّفا يدعو وقد أحدقت به الأنصار، فلمَّا فرغ من دعائه قال صلى الله عليه وسلم: "ماذا قلتم ؟" قالوا: لا شيء يا رسول الله. فلم يزل بهم حتى أخبروه بخشيتهم من أن يتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقيم في مكة، فقال: مَعاذ الله. المحيا محياكُم، والمماتُ مماتكُم.
فاستبشر الأنصارُ، وتهلَّلت وجوهُهم سروراً، وهطلتْ دموعُ الفرح على خدودهم.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أنت أكرمُ النَّاس، أنتَ أبرُّ النَّاس.
وإني لمطأطئٌ رأسي استحياءً منك.
وإكباراً لمقامك السَّامي العظيم.
الدكتور الشيخ محمود عكام