فالتصوف علمٌ يهتم بتزكية النَّفس البشرية وترقيتها وإخراجها من حضيض الشَّقاوة والجحود النفساني ليرقيها إلى موطن السعادة والشُّكر الرباني.
وهذه التزكية لا تتأتى إلا بإتباع منهج قويم له أُسس ثابتة ودعائم قوية ترتكز على الكتاب والسنة، مما يعني ارتباطهُ بالأصل، أي الدين الحنيف مجسداً في القرآن الكريم والسُّنة النبوية الغَّراء.
وهذا الارتباط بالجذور هو الذي دفعَ هذا العلم إلى المسايرة الدائمة لروح العصر وما يشهدهُ من تطورات علمية. ومعلوم أن المنهج الصوفي قائمٌ على المجاهدة وتطهير القلوب من الأمراض التي تمنعها من الارتقاء في طريق السلوك الموصل إلى معرفة الله .
فإذا طبق المريدُ الصادق هذا المنهج تهيأت نفسهُ وانجلت مرآة قلبه لتصبح على استعداد لمطالعة الأنوار القدسية، يقول الله تعالى:(أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ...)،الأنعام 122 الآية، هذا النور الذي يتمثل في الكشف الصوفي وهو عبارة عن حقائق إلهية،كما يقولُ العلامة عبد الرحمان بن خلدون في مقدمته حول الكشف الصُّوفي :"... ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العُلوية والسُّفلية وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك ، وقَصُرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك،..." ، إذ يشيرُ بن خلدون هنا إلى خصوصية المعرفة الصُّوفية وانفرادها بلغة ذوقية خاصة، عبر عنها الصُّوفية في أشعارهم ومدائحهم الخاصة ساهمت في ترقية الذوق الجمالي لديهم.
شهدَ التصوف بعد ذلك مرحلة التدوين، فدونَ الصَّوفية ما وصلوا إليه من علوم وأسرار ، واعتمدوا في كثير من الأحيان على لغة خاصة بهم هي لغة الرَّمز والإشارة، تجاوزوا بها الواقع الحسي إلى اللامحسوس في طريق وصولهم إلى معرفة الحقيقة. لأن اللغة العادية عاجزة في التعبير عن مواجيدهم، كما عبر عن ذلك أبو حيان التوحيدي بقوله:" إن محدود اللغة لا يمكن أن يحوز مبسوط الفكر"
يقول ابن خلدون: "...وصار علم التصوف في الملة علماً مدوناً، بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك".