عمادُ الأرض

الإثنين 29 كانون الأول , 2025 08:04 توقيت بيروت لـبـــــــنـان

الثبات ـ لبنان

عمادُ الأرض


في زمنٍ تتشابك فيه الأمواج بالحدود، وتضيع فيه الحقيقة بين الروايات، يبرز اسم عماد أمهز شاب لبناني ارتبط بالبحر، درس مياهه وحفظ أسراره، واتخذ منه مهنةً وحلماً ومسار حياة.
  وُلد عماد فاضل أمهز في لبنان عام 1986، وينتمي إلى عائلة لبنانية معروفة بهدوئها وارتباطها بقيم العمل والاستقرار. في أواخر الثلاثينيات من عمره، اختار أن يشقّ طريقه المهني بعيداً عن الأضواء، فتوجّه إلى الدراسة البحرية وتخرّج من مؤسسات تعليمية مدنية متخصصة بالملاحة البحرية، حيث نال شهادة قبطان، بعد سنوات من الدراسة والتدريب العملي، ليبدأ مسيرته في مجالٍ لطالما شكّل له شغفاً وحلماً.
تميّز عماد بحبّه للبحر، لا كمهنة فحسب، بل كهواية وفضاء للهدوء والتأمل، فكان يجد فيه ملاذاً من ضجيج الحياة وضغوطها. عُرف بين محيطه الاجتماعي بشخصيته الهادئة، والتزامه، وعلاقته القوية بعائلته التي شكّلت له دائماً سنداً أساسياً ودافعاً للاستمرار. وبين تفاصيل حياته البسيطة وطموحاته المهنية، تبدو قصة عماد أمهز أقرب إلى قصة شاب عادي سعى لبناء مستقبله، قبل أن تتحوّل حياته فجأة إلى انتظارٍ مفتوح وقلقٍ لا يخصه وحده، بل يطال عائلته والوطن أجمع.
    وفي حرب أيلول الأسود٢٠٢٤، شهدت منطقة البترون الساحلية شمال لبنان حادثة استثنائية شكّلت صدمة كبيرة على المستويين الشعبي والإعلامي، تمثّلت في اختطاف عماد أمهز من مكان إقامته قرب الشاطئ. ففي ساعات متأخرة من الليل، نفّذت قوة عسكرية إسرائيلية خاصة عملية إنزال بحري دقيقة، وصلت عبر البحر إلى اليابسة، مستغلة هدوء المنطقة وطبيعتها السياحية التي لا توحي بأي طابع عسكري أو أمني.
 وخلال العملية، اقتحمت القوة المكان الذي كان يوجد فيه عماد، واقتادته بالقوة، قبل أن تنسحب بسرعة عبر البحر، في مشهد أعاد إلى الأذهان كيف تكون عمليات الاختطاف السرية..
بينما لم تُكلّف إسرائيل نفسها عناء التخفي حين اختارت أن تختطف عماد أمهز من قلب البترون، المدينة التي تُعرَف بساحاتها المفتوحة، وبأجوائها الحيّة المليئة بالفرح والحفلات والمهرجانات. لم يكن المكان نائيًا أو معزولًا، بل مساحة عامة نابضة بالحياة، يفترض أن تكون بعيدة عن منطق العمليات العسكرية. ومع ذلك، تحوّلت البترون في تلك الليلة إلى مسرحٍ لعملية اختطاف نُفّذت بوضوحٍ صادم، وكأن الرسالة المقصودة لم تكن السرية بقدر ما كانت إظهار القدرة على الوصول والخرق.
في مدينةٍ تعجّ بالناس، وعلى شاطئٍ يفترض أن يكون محاطًا بالحركة والرقابة، تمّت العملية بين بحرٍ تعبره قوة عسكرية، وأرضٍ لم تكن خالية ولا غافلة. هذا التداخل بين الحياة المدنية الطبيعية والحضور العسكري المفاجئ كشف حجم الجرأة في التنفيذ، وأثار تساؤلات عميقة حول معنى الأمان وحدود الحماية. فأن يُختطف إنسان من مدينة تشهد الفرح والاحتفال، لا من جبهة أو منطقة نزاع مباشر، هو بحد ذاته إعلانٌ صريح بأن الاختراق لم يعد استثناءً، بل فعلًا متعمّدًا يُنفَّذ في وضح السياق المدني.
وهكذا، لم تكن حادثة اختطاف عماد أمهز مجرد عملية أمنية معزولة، بل لحظة صادمة كشفت كيف يمكن للبحر أن يتحوّل من فضاءٍ للحرية إلى معبرٍ للقوة، وكيف يمكن لمدينةٍ تنبض بالحياة أن تشهد، في اللحظة نفسها، فعل خطفٍ ينسف الشعور بالأمان ويزرع الخوف في قلب المكان.
جاء اختطاف عماد أمهز في لحظةٍ كان فيها لبنان غارقًا في مشهد يومي من القصف والضحايا والدمار، حيث كانت الأخبار تُحصي أعداد القتلى بالعشرات والمئات، وتوثّق انهيار القرى والبنى التحتية، فيما بدا البلد بأكمله عالقًا في قلب صراعٍ مفتوح لا يملك قراره. وفي خضمّ هذا المشهد الدموي، بدأت التساؤلات تفرض نفسها بقوة: ما علاقة عماد أمهز بكل ما يجري؟ ولماذا يُختطف شخص لا يُعرف عنه انتماء حزبي أو دور عسكري معلن؟
كان الرأي العام، محليًا ودوليًا، يتعامل مع ما يجري على أنّه صراع مباشر بين إسرائيل وحزب الله، لا حربًا شاملة على لبنان كدولة أو مجتمع. هذا التصوّر غذّته سرديات كثيرة، رأت في إسرائيل طرفًا “يدافع عن نفسه”، وتجاهلت في المقابل واقع بلدٍ مثقل بالاختراقات والانقسامات، وبوجود عملاء في الداخل يبرّرون العدوان أو يخفّفون من وطأته. لكن اختطاف عماد أمهز من قلب مدينة مدنية، وفي هذا التوقيت تحديدًا، أربك هذه الرواية، وفتح الباب أمام سؤال أوسع حول حقيقة الأهداف وحدود الاستهداف.
زاد من حدّة هذا السؤال أنّ اللبنانيين كانوا، في الوقت نفسه، شهودًا يوميين على آلة القتل الإسرائيلية في غزة، التي استمرّت لأكثر من عام أمام أنظار العالم، من دون رادع أو مساءلة. هذا التناقض بين خطاب “الدفاع عن النفس” ومشاهد الإبادة والدمار الجماعي، جعل قضية عماد أمهز تتجاوز شخصه، لتصبح جزءًا من نقاش أكبر حول ازدواجية المعايير، وحول الإنسان الذي يُختصر فجأة في ملف أمني، بينما يُغفل سياقه المدني وحقه الأساسي في الحياة والأمان.

بعد حادثة الاختطاف، دخل اسم عماد أمهز في فراغٍ ثقيل من الأخبار، كأنّ الغياب لم يقتصر على الجسد، بل انسحب أيضًا على المعلومة والمتابعة. فمع مرور الأيام، بدا واضحًا تملّص الدولة اللبنانية من ملاحقة الملف بجدّية، واقتصر الحضور الرسمي على مواقف خجولة وبيانات عامة لم تُترجم إلى ضغط فعلي أو مسار قانوني واضح. وفي بلدٍ مثقل بالأزمات والانقسامات، ضاع ملف عماد بين الأولويات المتزاحمة، وكأنّ مصير فردٍ مختطف لم يعد شأنًا عاجلًا.
طوال تلك الفترة، انقطعت الأخبار عنه بشكل شبه كامل، لتعيش عائلته ومعارفه حالة انتظار قاسٍ، معلّق بين الأمل والخوف، من دون أي معلومة تطمئن أو حتى تؤكّد واقعه. لم يكن الصمت مجرّد غياب إعلامي، بل فراغًا سياسيًا وإنسانيًا.
هذا الصمت لم يُكسر إلا مع نشر آخر فيديو له، الذي أعاد اسمه إلى الواجهة، لكن بطريقة موجعة. فبدل أن يحمل الفيديو خبرًا مطمئنًا، أعاد التذكير بحقيقة الأسر، وكرّس الشعور بأنّ عماد أمهز تحوّل من إنسان له حياة وعائلة، إلى ورقة تُستعمل عند الحاجة، ثم تُترك مجددًا في العتمة. وبين صمت الدولة وضجيج الروايات، بقي عماد حاضرًا في الغياب، شاهداً على هشاشة الحماية، وعلى ثمن المقاومة في وجه الاحتلال.

بين البحر الذي أحبه، والزنزانة التي فُرضت عليه، يقف عماد أمهز شاهداً على هشاشة الإنسان أمام العنف، وعلى وجع الانتظار الذي تعيشه العائلات حين يُختطف أحد أبنائها، ويبقى الأمل وحده هو الحبل الأخير الذي لا ينقطع..
أعاد ظهور فيديو الأسير عماد أمهز قضيته إلى الضوء، وأحدث ضجّة واسعة في الشارع والإعلام، لكنّها بقيت في إطار ردود الفعل الكلامية، من دون أن تُترجم إلى أفعال أو جهود ملموسة. ففي الوقت الذي ينشغل فيه الرأي العام بلحظة التعاطف العابرة، تواصل الدولة اللبنانية العيش تحت اعتداءات إسرائيلية يومية تطال مختلف المناطق، مخلّفة ضحايا ودمارًا، ومكرّسة خرقًا متواصلًا للسيادة. هذا الواقع يطرح سؤالًا جوهريًا: هل تملك الدولة، وهي تقدّم نفسها في موقع الضعف والعجز، القدرة أو الإرادة على التحرّك الفعلي لتحرير أسراها؟ أم أنّ ملف الأسرى سيبقى رهينة البيانات والانتظار، في ظل ميزان قوى لا يعمل لصالح من يكتفي بردّ الفعل؟

بدت لغة الجسد في ظهور عماد أمهز المصوَّر محمّلة بإشارات يصعب تجاهلها، وتعكس حالة نفسية وجسدية ضاغطة. فملامح الوجه الجامدة، ونظرة العينين التي بدت مثقلة ومتعبة، توحي بإنهاكٍ واضح، لا ينسجم مع الهدوء المفترض في تسجيلٍ طوعي. كما أنّ حركاته المحدودة، وجلسته المتحفّظة، وطريقة إمساكه بجسده، كلّها مؤشرات تُقرأ عادة في علم لغة الجسد كعلامات على توتر شديد وفقدان للارتياح. بدا صوته، حين تكلّم، منخفضًا ومتقطّعًا، وكأنّ الكلمات تُنتزع منه انتزاعًا، لا تُقال بعفوية.

على الرغم من وضوح آثار التعذيب والإرهاق الشديد على عماد أمهز، بدا جليًا أنّ ما قاله في ظهوره المصوَّر لم يتجاوز العموميات المعروفة. فقد اقتصر حديثه على مبادئ عامة باتت جزءًا من الخطاب السياسي العلني، كفكرة أنّ المقاومة تواجه إسرائيل والولايات المتحدة، وتطرّق إلى أسماء أشخاص استشهدوا أصلًا وأصبحوا جزءًا من الذاكرة العامة، من دون أن يقدّم أي معلومة جديدة، أو اعتراف فعلي يمكن البناء عليه أمنيًا. هذا السقف المحدود للكلام، في ظل ظروف قاسية وواضحة، يعكس حجم الضغط الذي تعرّض له، وفي الوقت نفسه يكشف عن وعيه بخطورة ما يمكن أن يُقال، حتى وهو في أضعف حالاته.

في المقابل، تثبت التجربة أنّ المقاومة لا تُختصر باسم واحد ولا بعنوان واحد، بل تتشكّل حيثما وُجد ظلم، وتولد من رحم القهر رجالًا ونساءً لم يكونوا متوقّعين. هكذا يظهر المقاوم أحيانًا بلا إعلان، وبلا صفة مسبقة، كما خرج عماد أمهز رجلًا من رجال هذه المقاومة، لا لأنّه سعى إلى ذلك، بل لأنّ الظروف صنعت منه موقفًا. ويبقى ما يُحسب على هؤلاء أنّهم يرفضون الذلّ، ويتمسّكون بالكرامة، ويحفرون طريقهم بأيديهم في وجه القهر، لا بدافع العنف، ولا ثقافة موت…إنما ثقافة الحياة والكرامة…
حتى ولو كانت مقاومة في البحر أحياناً

لمى المقهور


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل