الثبات ـ عربي
انضمام حكومة أحمد الشرع إلى «التحالف الدولي ضد داعش» فجّر صراعاً مع الطيف الجهادي، كاشفاً مزيداً من التحديات أمام الحكومة الجديدة، ووقوعه بين ناري شروط الغرب و«ثوابت الجهاد»
لا تبدو طريق الرئيس الانتقالي في سوريا، أحمد الشرع، مُسهّدة وسهلة، إذ يحتفظ الرجل وتنظيمه، بندوب وجروح عميقة ومستمرّة، انتقلت معهما من «أرض الجهاد» إلى «قصر السلطة». انتقالٌ يَظهر معه العداء بين «هيئة تحرير الشام» بقيادة الجولاني/ الشرع، وخصومه «الجهاديين» وفصائل أخرى، مستحكماً بل ومستفحلاً. فالشرع يرى في هؤلاء جميعاً عقبة أمام بناء «سوريا الجديدة» كما يتصوّرها، فيما يرونه هم «خائناً للدين والثورة معاً». وعلى الرغم من نجاحه في تحجيم تلك الفصائل عسكرياً، فإن قراراته الأخيرة، ولا سيما على مستوى التحالف مع واشنطن ضدّ «داعش»، أعادت ضخّ الحياة في دعاية بعض خصومه، وظهرت بمثابة تأكيد لنبوءاتهم السابقة عنه، إذ أجمع معظم الطيف «الجهادي السلفي»، بما في ذلك «داعش» و«القاعدة» وحلفاؤهما، على إدانة انضمام حكومة الشرع إلى «التحالف الدولي»، معتبرين الخطوة دليلاً نهائياً على خروج «تحرير الشام» من معسكر «الجهاد» إلى صفّ «الأعداء»، ومتوعّدين بالتعامل مع الهيئة على هذا الأساس.
وعليه، تواجه حكومة الشرع اليوم اختباراً وجودياً على جبهتَين متناقضتَين: الأولى أمام «المجتمع الدولي»، لإثبات أنها شريك في «محاربة الإرهاب» وبناء الاستقرار؛ والثانية أمام القواعد الجهادية، لإقناعها بأنها لم تتخلّ عن «الثوابت الإسلامية»؛ وتلك معادلة شديدة التعقيد، ومحفوفة باحتمالات وقوع مفاجآت في أي لحظة. وفي حين لا يشكّل «داعش»، في مرحلته الراهنة، خطراً داهماً على سلطة الشرع، كونه يفتقر إلى مشروع سياسي قابل للحياة، وهو عبارة عن خلايا وأفراد متشرذمين، فإن الخطر الأساس يكمن في المقابل في صفّ الفصائل الحليفة الموجودة اليوم داخل بنية الحكم نفسها، أو على هامشها وفي أطرافها، وقد تتحوّل، في لحظة سياسية أو أمنية مفصلية، إلى مصدر التحدّي الأكبر. وتنقسم خارطة الفصائل الجهادية والمجموعات المسلّحة - بعيداً من «قسد» ومنطقة الساحل - إلى 3 مستويات، تتقاطع وتشتبك في ما بينها، من دون أن يؤدّي ذلك - إلى الآن - إلى انفجار كبير.
«القاعدة» والأجانب: حذارِ «التمييع» أو التضييق
يُعدّ تنظيم «حرّاس الدين» من أبرز الفصائل التي عارضت «هيئة تحرير الشام» سابقاً، ولا تزال اليوم في موقع الخصومة مع السلطة السورية الجديدة وتوجّهاتها. فالتنظيم، وهو فرع «القاعدة» في سوريا، أعلن حلّ نفسه مع سقوط النظام السوري السابق وبداية تفكيك الفصائل مطلع العام الجاري، غير أن هذا الإعلان لم يُنهِ حضوره الفعلي، إذ انخرط عدد كبير من عناصره في الأجهزة الأمنية الحكومية، في حين حافظت مجموعات أخرى على حدٍّ أدنى من التواصل والنشاط، من دون استفزاز مباشر للسلطة الجديدة. وبالعودة إلى بيان «الحلّ» الذي أصدره التنظيم، فهو تضمّن رسائل مزدوجة حملت طابع النصيحة والتهديد الضمني لحكومة أحمد الشرع؛ إذ دعا إلى «الحفاظ على السلاح بيد أهل السنّة»، وحضّ على «إقامة الدين وتحكيم الشريعة وعدم التمييع»، معتبراً أن سوريا لا تزال ساحة مفتوحة لـ«المعارك الكبرى» ضدّ «الطغاة والمستعمرين».
وإذ يُعدّ أي تحالف مع الولايات المتحدة، في أدبيات التيار «القاعدي»، ذروة «الميوعة والتفريط»، فإن «حرّاس الدين»، ومعه التيار المذكور عموماً، يراهنان على القواعد الدنيا داخل «تحرير الشام» والفصائل التي تشكّل اليوم وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية، من أجل إعادة «دوزنة» الأمور، إذ تجري اليوم محاولات منظّمة لـ«تحريض» العناصر على قياداتهم، وذلك تحت عناوين من مثل «التنازلات المفرطة» التي تقدّمها حكومة الشرع، أو «التحالف مع عباد الصليب ضدّ المجاهدين».
صعّد «داعش» نشاطه العسكري والدعائي، وأرفقه بحملة تجنيد وتحريض مكثّفة استهدفت أنصار الفصائل الأخرى وعناصرها
وإلى جانب «حراس الدين»، تبرز فصائل صغيرة تتكوّن أساساً من مقاتلين أجانب، مثل «الحزب الإسلامي التركستاني» (الأويغور)، و«كتيبة التوحيد والجهاد» (الأوزبك)، و«أجناد القوقاز» (الشيشان)، وغيرها. هذه الفصائل لم تعلن معارضة صريحة للسلطة الجديدة، لكنها تراقب سلوكها عن كثب، ولا سيما في ما يتعلّق بالتقارب مع الخصوم التقليديين - كالصين وروسيا في حالة «التركستاني» -، وكذلك بفرض قيود على نشاطها ونفوذها. وفي حين يتبنّى بعض هؤلاء فكر «القاعدة» بالكامل، فهم قد يرون في أي تسوية سياسية تنخرط فيها حكومة الشرع خيانة صريحة. ومن هنا، يبقى احتمال حدوث انقلابات عنيفة على أيديهم قائماً، خصوصاً إذا طُلب إليهم نزع سلاحهم أو مغادرة سوريا ضمن تفاهمات دولية، في ظل غياب أي وطن بديل لهم.
أمّا «حزب التحرير»، فيشكّل حالة مختلفة؛ فهو حزب سياسي عقائدي يدعو إلى إعادة «الخلافة»، ويؤكّد اعتماده وسائل غير عنفية، لكنه يتمتّع بحضور ملحوظ داخل بيئات المعارضة، ولا سيما في إدلب، كتيار دعوي منظّم يملك شبكات وأنصاراً وقدرة على التعبئة. ومنذ عام 2023، برز الحزب كأحد الخصوم الإسلاميين لـ«هيئة تحرير الشام»، في حين أنه في تشرين الثاني 2025، أصدر «المكتب الإعلامي لحزب التحرير – ولاية سوريا» بياناً اعتبر فيه أنّ «الانخراط الصريح في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب تبرّؤٌ من الثوابت وانزلاقٌ خطيرٌ نحو الهاوية».
المعارضة «غير الجهادية»: خارج السلطة
إلى جانب التيارات الجهادية، تَبرز فصائل ومجموعات أخرى لا تُصنّف جهادية بالمعنى التقليدي، وهي فصائل «الجيش الوطني السوري» المدعوم من تركيا، ومن بينها «الجبهة الشامية»، ذات الخلفية الإسلامية – السلفية، والمتمركزة أساساً في شمال حلب. ولم تدخل هذه المجموعات، بعد سقوط النظام السابق وتشكيل الحكومة الجديدة، في مواجهة مفتوحة مع الشرع، لكنها في المقابل لم تندمج في مشروعه السياسي والعسكري، بل حافظت على مناطق سيطرتها ونفوذها شمالاً، وأبدت تحفّظاً واضحاً على احتكار «هيئة تحرير الشام» القرارين العسكري والسياسي، مع مطالبة بتمثيل أوسع في بنية الدولة الجديدة. وتدور «الجبهة الشامية» في الفلك التركي، في حين تدير أنقرة علاقتها بها بعناية، فلا تسعى إلى حلّها أو دمجها الكامل، بل تُبقيها، إلى جانب فصائل أخرى، كورقة نفوذ مباشرة في مواجهة مختلف الأطراف، بما في ذلك سلطة الشرع نفسها.
كذلك، لا تُغفَل «حركة أحرار الشام الإسلامية»، التي كانت تاريخياً من أكبر الفصائل الإسلامية السلفية في سوريا، قبل أن تدخل منذ عام 2017 في سلسلة انقسامات حادّة أفقدتها ثقلها العسكري تدريجياً، لينتهي الأمر بها باندماج بقاياها ضمن «الجيش الوطني».
«داعش»: «حرب شاملة» على الحكومة «المرتدّة»
مع سقوط نظام الأسد وصعود حكومة أحمد الشرع، رأى تنظيم «داعش» فرصة لإعادة تقديم نفسه بوصفه حامل لواء «الجهادية الصافية» في مواجهة من يسمّيهم «الطواغيت الجدد»، إذ فوق العداء التاريخي بين «داعش» و«هيئة تحرير الشام»، والذي سبق وصول الأخيرة إلى السلطة، اعتبر التنظيم أن تولّي الشرع الحكم وتقاربه مع الغرب يؤكّدان «نبوءاته» حول انحراف الجماعات الإسلامية الأخرى، ويمنحانه صفة «الخط المستقيم» الوحيد.
وانطلاقاً من ذلك، لم يتأخر التنظيم في إعلان الحرب على الحكومة الجديدة في دمشق؛ ففي كانون الأول 2024، وبعد أيام قليلة من سقوط النظام السابق، نشر افتتاحية في صحيفة «النبأ» (العدد 473)، وصف فيها «الجولاني» وحلفاءه بأنهم «مجاهدون مدجّنون مرتدّون»؛ ثمّ بلغ التحريض على الرئيس الانتقالي ذروته في ربيع 2025، مع إصدار فيديو دعائي بعنوان «هذا بلاغ للناس... إقامة للحجة وبيان للحق»، أعلن فيه «داعش» بدء «حرب شاملة» ضدّ السلطة.
وفي أعداد لاحقة من «النبأ»، هاجم التنظيم انضمام دمشق إلى «التحالف الدولي»، معتبراً أن «أميركا الصليبية» باتت «صديقة في أعينهم»، واتّهم حكومة الشرع بالسعي إلى السلطة لا أكثر، وإعادة إنتاج «دور الطاغوت» في «دورة جاهلية مكرّرة، أولها ثورة وأوسطها خيانة وآخرها عتق من الإرهاب»، خاتماً بعبارة لافتة: «لقد كانت بالفعل ثورة حتى القصر!». وبالمجمل، تقوم سردية «داعش» في مواجهة الحكم الجديد على:
- تكفير أحمد الشرع ووصمه بـ«الخيانة».
- رفض أي تعاون سياسي أو أمني مع الغرب.
- تمجيد نهج «داعش» نفسه، ولا سيما مفهوم «الولاء والبراء».
- رفض الديمقراطية والدولة المدنية بشكل مطلق.
- دعوة عناصر «هيئة تحرير الشام» والأجهزة الأمنية إلى الانشقاق والالتحاق بالتنظيم.
هكذا، صعّد «داعش» نشاطه العسكري والدعائي، وأرفقه بحملة تجنيد وتحريض مكثّفة استهدفت أنصار الفصائل الأخرى وعناصرها، ولا سيما الساخطين داخل «تحرير الشام»، سواء بسبب التحوّلات السياسية، أو بسبب صراع النفوذ والمواقع داخل السلطة الجديدة. ويُشار هنا إلى أن عدداً كبيراً من أولئك العناصر - حتى داخل «تحرير الشام» -، هم أساساً مقاتلون سابقون في «داعش»، انتقلوا إلى مجموعات أخرى بعد هزيمة التنظيم، من دون أن يعني ذلك بالضرورة تخلّيهم الكامل عن ولائهم الفكري السابق. وفي هذا السياق، ورغم تزامن بعض عمليات «داعش» الأخيرة، إلا أنها لا تحمل حتى الآن طابع الزخم القادر على التأثير في المسار العام في سوريا، وتبدو أقرب إلى هجمات انتقامية محدودة، ما يجعل من المبكر الحكم على تداعياتها.
سوريا.. إحباط محاولة لتهريب المخدرات بالبالونات من البادية السورية إلى الأردن
منفّذ هجوم تدمر خِرّيج «حراس الدين»: كيف يستقطب «داعش» عناصر الجيش الجديد؟
ليبيا تنعى رئيس أركان الجيش بعد تحطم طائرته الخاصة في تركيا