دماء أمريكية في مياه نهر صيني!

الجمعة 12 كانون الأول , 2025 08:37 توقيت بيروت منــوّعــــات

الثبات ـ منوعات

في صباح يوم مشمس وبارد من شهر ديسمبر عام 1937، كان نهر اليانغتسي يتدفق بهدوء كعهده عبر قلب الصين المضطرب، حاملا معه أخبار الحرب والدمار.

كانت السماء صافية تقريبا، لكن رياح العدوان كانت تعصف بالمنطقة. كانت القوات اليابانية تشن هجوما عنيفا في اتجاه نانجينغ، العاصمة الصينية آنذاك. في خضم هذا الضباب الحربي الكثيف، كانت بضع سفن لقوى غربية تتحرك بحذر على مياه النهر، تحمل أعلاما أمريكية وبريطانية، في مهمة تبدو في ظاهرها روتينية ولكنها في جوهرها خطيرة للغاية.

كانت مهمة هذه الزوارق الحربية، بموجب اتفاقيات دولية، حماية المدنيين والمصالح التجارية الأجنبية في منطقة أصبحت ساحة معركة ضارية بين الصين واليابان. وكان من بين هذه السفن الزورق الحربي الأمريكي "يو إس إس باناي"، الذي وجد نفسه فجأة في قلب عاصفة دبلوماسية وعسكرية كادت أن تغير مسار التاريخ.

كان "باناي" أكثر من مجرد سفينة حربية، كان ملاذا صغيرا يطفو على مياه اليانغتسي المضطربة. على متنه، تجمع مزيج بشري يعكس تعقيدات تلك اللحظة التاريخية، أربعة وخمسون بحارا وضابطا أمريكيا، وأربعة من موظفي السفارة الأمريكية الذين غادروا بر الأمان النسبي للعاصمة، وعشرة مدنيين معظمهم من الصحفيين الذين جاؤوا لتغطية الحرب فوجدوا أنفسهم جزءاً من حدثها الدامي.

كان الصحفيون هناك لجمع الكلمات وصور ما يجري، لكنهم سرعان ما سيدونون روايات عن الموت وظروف العيش من قلب المأساة. كانت السفينة، برسوم العلم الأمريكي الواضحة على جوانبها والأعلام المرفوعة عاليا، تعتقد أنها محمية بحيادها وبرمزية الراية التي تحملها. كانت ترافق ثلاث ناقلات نفط أمريكية تابعة لشركة ستاندرد أويل، في رحلة تبدو آمنة عبر ممر مائي تحول إلى شريان حياة هش في منطقة حرب.

في حوالي الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر من ذلك اليوم، الثاني عشر من ديسمبر، انقضت الطائرات اليابانية من السماء الزرقاء كصقور حديدية. كانت مجموعة من القاذفات اليابانية من طراز "يوكوسوكا B4Y" والمقاتلات المرافقة من طراز "ناكاجيما A4N".

على الرغم من وضوح الرموز الأمريكية من كل الجهات، انطلقت القنابل نحو الهدف. كانت الأوامر الصادرة للطيارين اليابانيين غامضة وشاملة، مهاجمة "أي سفينة" في النهر فوق نانجينغ. أطلقت الطائرات ما مجموعه ثماني عشرة قنبلة، كل منها تحمل وزنا مدمرا يبلغ ستين كيلوغراما.

 ارتجت "باناي" تحت وطأة الضربات المباشرة، وتمزق هيكلها المعدني، واختلط دخان الحرائق بصيحات الجرحى وحشرجة المحركات الأخيرة. استمر القصف الموجع حتى الثالثة وأربع وخمسين دقيقة عصرا، حين ابتلعت مياه اليانغتسي الباردة الزورق الحربي المنكوب، لينزلق إلى القبر المائي حاملا معه أسرار ذلك اليوم وأحلام من كانوا على متنه.

لم تكن الخسائر مجرد أرقام في تقرير عسكري. كانت عبارة عن أرواح وكرامة ممزقة. قُتل أربعة بحارة أمريكيين وبحاران بريطانيان، بينما أصيب أربعة وسبعون شخصا بجروح، ثلاثة وأربعون منهم على متن "باناي" نفسها. أما العدد الدقيق للصينيين الذين لقوا حتفهم في هذا الحادث، سواء من طاقم الناقلات أو غيرها، فقد ضاع في ضباب الحرب والإهمال، ليصبح رمزا للخسائر التي لا تُعد. كان المشهد مأساويا بكل تفاصيله. في يوم مشمس، سفينة تحت علم دولة عظمى، تُستهدف وتُدمر بإصرار.

أثار الحادث صدمة وغضبا هائلين في الولايات المتحدة. تذكر الكثيرون فورا حادثة انفجار المدمرة "يو إس إس مين" في ميناء هافانا عام 1898، التي أشعلت الحرب الأمريكية الإسبانية. انتظر الرأي العام والعالم بأسره رد الفعل الأمريكي الحاسم. هل ستندفع أمريكا إلى حرب ضد اليابان في المحيط الهادئ قبل أوانها؟

 لكن رياح السياسة الدولية كانت معقدة. سارعت الحكومة اليابانية، التي كانت تستعرض قوتها العسكرية في آسيا لكنها لم تكن ترغب آنذاك في استعداء الولايات المتحدة علنا، إلى المبادرة بحملة دبلوماسية مكثفة لاحتواء الأزمة. قدمت طوكيو اعتذارا علنيا رسميا في غضون أيام، وأصرت على الرواية الرسمية التي وصفت الهجوم بأنه "خطأ مأساوي" و"غير مقصود"، نتيجة لسوء التعريف وضبابية الاتصالات، مدعية أن قواتها ظنت أن "باناي" سفينة صينية تنقل قوات منسحبة.

بعد شهور من المفاوضات المتوترة، في الثاني والعشرين من أبريل عام 1938، قدمت اليابان تعويضا ماليا كبيرا للولايات المتحدة بلغ 2.2 مليون دولار أمريكي، أي ما يعادل عشرات الملايين اليوم، ووُقعت اتفاقية لتسوية الحادثة رسميا. قبلت واشنطن الاعتذار والتعويض، واختارت، لاعتبارات إستراتيجية معقدة في فترة ما بين الحربين، عدم تصعيد الموقف إلى مواجهة عسكرية كاملة. في ذلك الوقت كان يمكن أن تشتعل الحرب بين البلدين في وقت أبكر بكثير مما جرى.

بقيت حادثة "باناي" جرحاً في الذاكرة الأمريكية، ودرسا قاسيا في العلاقات الدولية. كشفت عن حقيقة الوضع في آسيا حيث كانت القوة العسكرية اليابانية تتحرك بجرأة متزايدة، متحدية المصالح الغربية. كما كشفت عن حدود الحياد والاعتماد على الرموز القانونية في زمن يسوده قانون القوة والرعب. كانت تلك القنابل التي سقطت على اليانغتسي في ديسمبر 1937 تبدو من بعيد بمثابة ناقوس خطر يُحذر من عاصفة كبرى قادمة ستجتاح المحيط الهادئ بعد أربع سنوات فقط في بيرل هاربر. كانت "باناي" ضحية مبكرة لصراع أكبر، وشاهدا صامتا على لحظة تاريخية انهارت فيها الأعراف وتلاشت الثقة، لتبقى صورتها الغارقة في مياه النهر العظيم رمزا لهشاشة السلم في أزمنة الحروب التي ستعيد تشكيل القرن العشرين.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل