"إسرائيل" تحاول طمس أثار قدميْ المسيح في جنوب لبنان!

الإثنين 08 كانون الأول , 2025 08:44 توقيت بيروت لـبـــــــنـان

الثبات ـ لبنان 
 
على وقع الموسيقى التراثية والدبكة  الفلكلورية اللبنانية استقبل بلد الأرز_لبنان_يوم الأحد الواقع في 30 تشرين  الثاني 2025 البابا ليو الرابع عشر.
 
كان استقبال اللبنانيين للبابا مشهدًا أكبر من حدث رسمي؛ كان لحظة قلب انفتح على مصافِحة قلب. منذ ساعات الصباح الأولى، امتلأت الطرقات بالناس من كل الأعمار والطوائف، يحملون أعلامًا وصورًا وورودًا، كأنّهم يزيّنون التعب اليومي بما تبقّى لديهم من أمل. كانت الوجوه تلمع رغم الحرّ، والعيون مترقّبة كمن ينتظر قريبًا غائبًا منذ زمن. وما إن ظهر موكبه حتى ارتفع التصفيق كنبضة واحدة، واختلطت الدعوات بالدموع، وراحت الأيدي تُلوّح بلا توقّف، وبعضهم كان يبكي دون أن يعرف لماذا—ربما لأنّ لحظة الشعور بأنّ أحدًا يسمعك حقًا نادرة جدًا في هذا البلد. في القرى، خرج الناس إلى الشرفات، وعلّقوا الزينة، ووزّعوا الخبز والماء على العابرين، كأنّ الزيارة عيد غير مكتوب. وفي الساحات الكبرى، كان المشهد أعمق من الحشود: كان امتلاءً روحانيًا، شعورًا بأنّ لبنان—على الرغم من جراحه—ما زال قادرًا على أن يوحّد أبناءه حول لحظة رجاء واحدة. لقد استقبلوا البابا كما يُستقبل الضوء حين يدخل بيتًا انطفأ ليلًا… بكثير من الامتنان، وبقلب يفتح أبوابه على آخرها.
 
جاء البابا في زيارة إنسانية روحية ليترك بركاته على هذا البلد الذي عانى في السنتين الأخيرتين ما عاناه من حروب شنّها العدو الإسرائيلي  على كل ما على هذه الأرض من حجر وبشر وحتى أوراق شجر .
 
إذاً تُرى  كيف يبدأ البابا زيارته لبلدٍ تصحو ضاحيته على رائحة الدخان، ويغفو جنوبه على صدى القصف؟ سؤال يشبه وجع اللبنانيين أنفسهم.
كنت أتخيل أنه حين يصل، سيتقدّم بخطوات هادئة بين الخراب، كأنّه يصرّ على أن يرى الإنسان قبل الركام، والرجاء قبل الحطام. قد  يدخل لبنان من بابه الأصعب… باب جراحه المفتوحة، ليقول إن الضوء ما زال يجد طريقه، حتى لو كانت السماء ملبّدة بالرماد.
 
قبل الحديث عن حقيقة برنامج البابا الذي حدث بعيداً عن تصورات كاتبة هذا المقال التي لن تتحقق على ما يبدو سوى في مدينة أفلاطون الافتراضية…
تجدر الإشارة إلى أن بلدية بيروت وسائر المناطق التي كانت ضمن لائحة برنامج البابا قد بدأت سلسلة تصليحات في الطرقات والإنارة ..تلك التي مضى بسببها الكثير من اللبنانيون أثر حوادث السير…
 
كيف يمكن لبلدٍ غارق في العتمة منذ سنين أن يضيء فجأة كل طرقاته؟ وكيف تتحوّل الحفر التي ابتلعَت أحلام الناس إلى أرصفة ناعمة في ليلة واحدة؟ اللبنانيون رأوا المشهد بمرارةٍ يعرفونها جيدًا: أجل، تمّ تجميل كل شيء لأنّ البابا آتٍ… أعمدة مضاءة، طرقات ممهّدة، تنظيم يشبه بلدان الأحلام، وكأنّ الدولة تستيقظ فقط عندما يكون الضيف عظيمًا، لا عندما يتوجّع شعبها. المفارقة قاسية؛ فالرجل جاء ليشهد على أوجاع الناس، على معاناتهم في أبسط حقوقهم—الضوء، الطريق، والكرامة—لكن الزيارة كادت تُخفي الوجع بدل أن تُظهره. وفي قلب هذا التناقض، وقف اللبنانيون صامتين: كم هو جميل أن يضيء البلد… وكم هو موجع أن يضيء لغير أهله أولًا.
كان المشهد أكبر من حدث ديني، وأعمق من زيارة رسمية.
اللبنانيون الذين اختلفوا لسنين طويلة على السياسة، والهوية، والماضي، وحتى على الخبز والدواء… وجدوا أنفسهم فجأة يقفون كتفًا إلى كتف حين وصلت هذه الشخصية المسيحية العظيمة إلى لبنان. كان طبيعيًا أن يحتشد المسيحيون لاستقبال رمز روحي يمثّل قداسةً في وجدانهم، لكن الملفت كان : مشاركة المسلمين، وبالأخص أبناء الطائفة الشيعية، بحماسة لا تشبه إلا هذا البلد عندما يتذكّر أنّه قادر على الوحدة. رأينا كشافة المهدي وكشافة الرسالة التابعة لحركة أمل واقفين على الطرقات، ينظمون، يصفّقون، ويشاركون بقلوب صافية. لحظة يشعر فيها الناس بأنّ القداسة لا تنتمي لطائفة واحدة، بل لكل إنسان يعرف قيمة الإنسانية. في تلك الساعات، بدا وكأن لبنان يتذكّر نفسه: بلد قد يختلف حدّ الوجع، لكنه حين يلمس شيئاً من الضوء، يتوحّد كما لو أنه لم ينقسم يومًا. 
 
إذاً،  بوصول رسمي إلى بيروت حيث استُقبل من كبار المسؤولين، ثم في اليوم التالي زار Monastery of Saint Maroun in Annaya للصلاة على قبر Saint Charbel Maklouf – في خطوة رمزية لمسحة روحانية عميقة. ثم التقى رجال دين، كهنة، راهبات وعاملين رعويين في Shrine of Our Lady of Lebanon in Harissa، مؤكدًا على التعايش والحوار بين الأديان. بعد الظهر شارك في اجتماع بين الأديان في Martyrs' Square, Beirut حيث قادة من مسيحيين ومسلمين ودروز وغيرهم نطقوا بكلمة سلام، وزُرعت شجرة زيتون كرمز للأمل والسلام. كما التقى بالشباب في مقر بطريركية الموارنة في Bkerké، داعيًا إياهم لأن يكونوا جيل بناء ووحدة. وفي آخر يوم، زار مرضى ومستشفى في منطقة جال-الدّيب، ثم توقف بصمت عند موقع Beirut Port — موقع انفجار 2020 — ليصلي على أرواح الضحايا، قبل أن يحتفل بقداس كبير في الواجهة البحرية لمدينة بيروت ويودّع لبنان بكلمات أمل ودعاء للسلام.
 
في الذاكرة الشعبية للجنوب، تُروى حكاية أنّ المسيح مرّ ذات يوم بقرى الساحل، حيث كان الناس مثقلين بالأوجاع والخوف. يقال إنّه وقف عند مشارف إحدى القرى، فرأى طفلًا مريضًا، محمولًا على يدي أمّ أنهكها السهر. اقترب منها بلطف، ولمس رأس الطفل وهو يهمس بكلمة سلام. وما إن لامسته أنامله حتى فتح الصغير عينيه كمن يستيقظ من نومٍ طويل، فعاد النفس إلى صدره، وعادت الحياة إلى الأم التي انفجرت بالبكاء. انتشر الخبر في القرية، فخرج الناس من بيوتهم يستقبلونه بالدموع والخبز والزيت، لا يطلبون سوى أن يشعروا بأنّ السماء لم تنسهم. ومنذ ذلك اليوم، بقيت الحكاية تُروى جيلاً بعد جيل، كأنّها تذكير بأنّ البركة يمكن أن تزور الأماكن المتعبة، وأنّ الجنوب — رغم جراحه — لا يزال أرضًا يعرفها الضوء جيدًا.
 
غادر البابا لبنان، لكن حضوره بقي معلّقًا في الهواء مثل صلاة لم تُختَم بعد. ترك خلفه بركةً ومسحة سلام دخلت إلى قلوب اللبنانيين من كل الطوائف، كأن يده رفعت قليلًا من ثقل هذا البلد المتعب. ومع ذلك، ظلّ في القلب وجعٌ صغير لا يُقال بصوتٍ مرتفع: البابا الذي يعرف معجزة المسيح التي وطأت أرض الجنوب، ويعرف أنّ أبناء المسيح يعيشون هناك… في الضاحية، وفي الجنوب، وفي البقاع، حيث البيوت ما زالت تحت الركام من أثر الاعتداءات الإسرائيلية—لم يستطع أن يصل إليهم. ربما كانت الأسباب الأمنية أكبر من القدرة على تجاوزها، وربما كانت هناك قرارات وإرادات دولية—أميركية وإسرائيلية—أقوى من رغبة البابا الداخلية، تلك الرغبة الصامتة التي يعرفها الله وحده، بأن يذهب ويقف بين الناس الأكثر جرحًا. مؤلم أن يُمنع السلام من لمس الأماكن التي تحتاجه، مؤلم أن تبقى الزيارة ناقصة في قلبه كما في قلب اللبنانيين. لكن رغم كل ذلك، يكفي أنهم شعروا بأنّه أراد أن يكون هناك… وأنّ غيابه عن تلك الأراضي ليس تجاهلاً، بل قيدًا. وقيود الدنيا، مهما اشتدّت، تبقى أصغر من قداسة نيةٍ نقيةٍ كان يتمنى لو استطاع أن يتمّمها.
وإني لا أرى في ذلك سوى أن إسرائيل تحاول طمس أثر المسيح في الجنوب..بل في كل أقطاب الأرض.
 
وبعد كل ما تقدّم، يمكن القول إنّ الجانب الأكثر إشراقًا في هذه الزيارة كان ما كشفته من حقيقةٍ حاول كثيرون طمسها لسنوات. فالطائفة الشيعية، التي لطالما وُصِفَت—ظلمًا—بالتطرّف والانغلاق والولاء للخارج، قدّمت في هذه المناسبة صورة مختلفة تمامًا: صورة طائفة منفتحة، دينها سلس، تؤمن باحترام الأديان والرموز الروحية كلّها، وتشترك من قلبها في أفراح اللبنانيين قبل أحزانهم. شاركوا بالفن، بالموسيقى، بالتنظيم، وبحضورٍ صافٍ ترك أثره الواضح في المشهد الوطني. أثبتوا أنّ ما يُقال عنهم ليس إلا إشاعات تُراد لها أن تُصبح حقيقة، لكنهم بدّدوا غبارها يوم خرجوا يستقبلون البابا بكل محبة. وأثبتوا أيضًا أنّ ولاءهم الحقيقي ليس إلا للبنان… لأرضه، وناسه، ومناسباته، وأنهم أبناء هذا  التراب مهما حاول البعض أن يكتب لهم هوية أخرى غير هويتهم.

لمى المقهور


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل