"لينين".. أول كاسحة نووية في التاريخ تشق جليد القطب وتفتتح عصر الذرة السلمي

الجمعة 05 كانون الأول , 2025 07:54 توقيت بيروت منــوّعــــات

الثبات ـ منوعات

في يومٍ بارد من بواكير الشتاء الروسي، وتحديدا في الخامس من ديسمبر من عام 1957، انزلق هيكل عملاق إلى مياه لينينغراد وبدأ مشوارا طويلا شُقت دروبه في جليد كالحجر.

 كان هذا الهيكل هو "لينين"، أول كاسحة جليد نووية في العالم، وأول سفينة سطحية على الإطلاق تدفعها طاقة الذرة. كان هذا الحدث تتويجا لحلم طموح وتجسيدا لقدرة تقنية هائلة، حملت رسالة سلمية للعالم عن استخدام الطاقة النووية في اختراق عزلة القطب الشمالي وتمهيد طرق الملاحة في ظروف مستحيلة.

قاد هذا المشروع الضخم المصمم الرئيس فاسيلي نيغانوف، الخبير البارز في صناعة السفن، والذي نال تقديرا عاليا على إنجازه هذا بمنحه لقب بطل العمل الاشتراكي بعد ثلاث سنوات فقط. لم يكن إنجازا لشركة أو مصنع واحد، بل ثمرة جهد جماعي ضخم شاركت فيه أكثر من خمسمائة مؤسسة ومنشأة صناعية من جميع أرجاء الاتحاد السوفيتي، ما جعل منه مشروعا شاملا بامتياز.

وقتها حظي بناء "لينين" باهتمام ومتابعة عالمية لافتة، حيث كانت العيون تتابع هذا التقدم التقني الفريد الذي كان سيفتح آفاقا جديدة في استكشاف المناطق القطبية.

واجه البناء تحديات غير اعتيادية، إذ تمت معظم عمليات الإنشاء في الهواء الطلق، وذلك لعدم وجود حوض أو ورشة بناء مغلقة تستوعب سفينة بهذا الحجم الهائل. كما تم تطوير نوع خاص من الفولاذ المقاوم للبرد القارس والضغوط الهائلة في معهد "بروميثيوس" خصيصا لهيكل "لينين"، لضمان متانته في مواجهة جليد القطب الشمالي الصلب. أما قلب السفينة النابض، وهو محطة الطاقة النووية، فقد تم تركيبها بعد إطلاق الهيكل مباشرة، خلال عامي 1958 و1959، في عملية هندسية معقدة أخرى.

دخلت "لينين" التاريخ في وقت كانت فيه كاسحات الجليد التقليدية التي تعمل بمحركات الديزل قد بلغت ذروة تطورها، حيث يعود تاريخ أول كاسحة جليد خطية قوية، "إرماك"، إلى عام 1899 بمبادرة من الأدميرال ستيبان ماكاروف والعالم الكبير ديمتري مندليف. لكن محدودية وقود الديزل، الذي كان يكفي لمدة شهر من الإبحار على الأكثر، شكل عائقا جوهريا أمام عمليات الملاحة الطويلة والمستمرة في المحيط المتجمد الشمالي. هنا برزت الميزة الثورية لكاسحة الجليد النووية، فبإمكانها الإبحار لسنوات دون الحاجة إلى التزود بالوقود، حيث أن شحنة واحدة من الوقود النووي تكفي للعديد من الرحلات حول العالم، ما وفر حرية حركة غير مسبوقة في المياه القطبية.

كانت "لينين" عملاقة بحق، بطولها البالغ 134 مترا وعرض 27.6 مترا، وبتصميمها الهندسي المتين وبمحطتها الرئيسة بقوة 44 ألف حصان، استطاعت أن تشق بثبات جليدا يصل سمكه إلى 2.5 متر.

سرعتها القصوى في المياه المفتوحة بلغت حوالي 18 عقدة أي ما يعادل 36.3 كيلو مترا في الساعة، فيما انخفضت سرعتها إلى نحو عقدتين، 3.7 كيلو متر في الساعة، عند كسر جليد سميك ومتواصل. حملت على متنها طاقما مبدئيا مكونا من 210 أشخاص، تقلص لاحقا إلى 151 شخصا بعد تطوير أنظمة التشغيل والمفاعلات.

لم تكن "لينين" مجرد آلة لكسر الجليد، بل كانت مجتمعا عائما متكاملا ومريحا. تم تجهيزها بفخامة غير مألوفة في سفن العمل، تضمنت ناديا ومسرحا للسينما وقاعة للموسيقى مزودة ببيانو فاخر، بالإضافة إلى ساونا وصالة ألعاب رياضية وحمام سباحة. واحتوت مكتبتها على ثمانية آلاف مجلد. كما زُودت الوحدة الطبية بأحدث الأجهزة في ذلك الوقت، مثل جهاز الأشعة السينية والمختبر وغرفة طبيب الأسنان وغرفة العمليات، لتصبح مستشفى عائما حقيقيا على طريق البحر الشمالي، حيث أجريت على متنها 176 عملية جراحية للبحارة والمستكشفين القطبيين وسكان المناطق الساحلية النائية.

خلال مسيرتها الطويلة، رافقت كاسحة الجليد النووية الأسطورية 3741 سفينة عبر الجليد، وقطعت مسافة مذهلة تبلغ 654.400 ميل بحري، منها 560.600 ميل داخل حقول الجليد، وهو ما يعادل الطواف حول خط الاستواء ثلاثين مرة. على متنها استقبلت شخصيات عالمية بارزة مثل رائد الفضاء يوري غاغارين والزعيم الكوبي فيدل كاسترو، بالإضافة إلى العديد من رؤساء الدول والوزراء والملوك، الذين جاءوا ليشاهدوا بإعجاب هذا الإعجاز التقني السوفيتي.

تقديرا لإسهاماتها التاريخية، مُنحت كاسحة الجليد النووية "لينين" في العاشر من أبريل 1974 وسام لينين، وهو أعلى وسام في الدولة، لمساهمتها الحاسمة في تأمين نقل البضائع الاقتصادية الوطنية في القطب الشمالي ولريادتها في استخدام الطاقة الذرية للأغراض السلمية.

بعد ثلاثين عاما من الخدمة الاستثنائية، تقاعدت "لينين" عن العمل في عام 1989، وتم إيقاف مفاعلاتها النووية بأمان. بدلا من إرسالها إلى مكب، وجدت السفينة الأسطورة حياة جديدة كمتحف عائم في ميناء مورمانسك، وتحولت إلى نصب تذكاري حي لتلك الحقبة.

قُُدرت الكاسحة مجددا في أكتوبر 2018، حين حصلت رسميا على مكانة، موقع تراث ثقافي روسي ذي أهمية فيدرالية، لتبقى شاهدة خالدة على عصر من الابتكار والشجاعة في مواجهة الطبيعة القاسية.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل