الثبات ـ منوعات
في ذلك اليوم المصيري، العاشر من نوفمبر عام 1983، وفي قاعة محاضرات جامعية بمؤتمر أمني، لم يكن الحضور يدركون أنهم على وشك مشاهدة ولادة عصر رقمي جديد.
في تلك المناسبة، وقف فريد كوهين، طالب الدراسات العليا في جامعة جنوب كاليفورنيا، ليقدم عرضا سيغير مفهوم الأمن السيبراني إلى الأبد. بين يديه برنامج صغير، لا يبدو مختلفا عن غيره، لكنه كان يحمل في طياته مفهوما ثوريا: قدرة غير مسبوقة على التكاثر والانتشار بين أجهزة الحاسوب. كانت تلك اللحظة التاريخية تمثل أول ظهور موثق لما سيعرف لاحقا باسم "فيروس الكمبيوتر".
ببراعة لافتة، أدخل كوهين سطر أوامر خبيثا في نظام يونكس، ليبدأ العرض المذهل. في غضون خمس دقائق فقط، تمكن هذا الكيان الرقمي الجديد من السيطرة على نظام حاسوب رئيس، ليبدأ في نسخ نفسه وعرض رسالة غامضة ومثيرة للفضول: "أنا كريبر، أمسك بي إن استطعت".
عبقرية أخرى ظهرت في ملاحظة الأستاذ المشرف ليونارد أدلمان، الذي شبه هذا البرنامج ذاتي التكاثر بالفيروسات البيولوجية، ليصبح أول من صاغ مصطلح "فيروس الكمبيوتر" الذي نعرفه اليوم.
لم يكن هذا الفيروس التجريبي ضارا في جوهره، بل كان بمثابة تحذير مبكر. لكن بعد البذرة التي أظهرها كوهين للعالم سرعان ما نبتت أشجار خبيثة. ففي سنوات الثمانينيات اللاحقة، بدأ هواة وقراصنة أوائل في إطلاق فيروساتهم الخاصة. حتى قبل أن يصبح المصطلح رائجا استخدم المراهق ريتشارد سكرينتا فيروس "Elk Cloner" في شكل "مقلب" لإصابة أجهزة أصدقائه.
بعد ذلك، جاء الأخوان الباكستانيان باسط وأمجد فاروق علوي عام 1986 ليبتكرا فيروس "براين"، أول فيروس واسع الانتشار، وكان ينتقل عبر الأقراص المرنة ويحمي من سرقة المعلومات بطريقة ذكية.
ازدادت الأمور تعقيدا مع فيروس "جيروزاليم" الذي اُكتشف في الجامعة العبرية عام 1987، وتسبب في أول خسائر كبيرة في مايو 1988. كان هذا الفيروس الخبيث يصيب الملفات القابلة للتنفيذ ويحذف البرامج التي تشغل في يوم معين، كما كان يصيب ملفات "EXE" بشكل متكرر حتى تتضخم بما يتجاوز قدرة الجهاز على التحمل.
لم تتوقف ظاهرة "فيروسات الكمبيوتر" منذ البداية عند هذا الحد، فظهر "كاسكيد" كأول فيروس مشفر مكتوب بلغة التجميع، وكان يسبب توقفا للنصوص على الشاشة مصحوبا بموسيقى، ما يعيق العمل ويؤدي إلى فقدان البيانات.
أما الفيروس الأكثر شهرة فكان باسم "موريس" وانتشر عام 1988. هو برنامج تجسس تحول إلى وباء رقمي بسبب خطأ في الترميز جعله يرسل نسخا من نفسه إلى أجهزة أخرى على شبكة "أربانيت"، الرائدة التي سبقت الإنترنت، مسببا إصابات هائلة وصلت إلى 10% من أجهزة الكمبيوتر في هولندا، ما دفع السلطات هناك لإعداد برامج مكافحة فيروسات خاصة.
الأسوأ كان فيروس "حصان طروادة" الذي انتشر عام 1989، والذي يعد أول فيروس فدية في التاريخ، حيث أصاب أجهزة علماء وباحثين طبيين يعملون على مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية، متسببا في فقدان كميات هائلة من البيانات المتراكمة حول الاستجابة لجائحة الإيدز.
بينما كانت هذه العواصف الرقمية تهب، كان كوهين ينتظر من بعيد، محققا الشهرة التي سعى إليها، بل وما تجاوز توقعاته. هيمن موضوع وباء فيروسات الكمبيوتر على صفحات الصحف والمجلات، وظهرت عنه قصص مصورة ورسوم متحركة وروايات خيال علمي. وأصبح كوهين بفضل الدعاية الإعلامية أول وأبرز باحث في مشكلة الفيروسات.
اقترح في عام 1984، إنشاء أول برنامج لمكافحة الفيروسات، ليثبت بعد بضع سنوات، في عام 1987، حقيقة مريرة: استحالة إنشاء خوارزمية تحمي من جميع الفيروسات بشكل مطلق.
لقد كانت بداية رحلة لم تهدأ حتى يومنا هذا، رحلة بدأت بعرض أكاديمي متواضع لبرنامج صغير لا يزيد عن 512 بايت، لكنه حمل بذور تحول رقمي هائل. من حماية حقوق النشر إلى التدمير المنظم، من المقلب البريء إلى الجريمة المنظمة، من التجربة المعملية إلى الوباء العالمي. في ذلك اليوم وُلد أول فيروس كمبيوتر، ومعه دخل العالم في عصر جديد من التحديات الأمنية التي لا تزال تتفاقم وتتطور، تاركةً وراءها إرثا من الدروس والعبر في عالم يتحول بسرعة كبيرة ليصبح رقميا بالكامل.
روسيا تخطط لتحويل رمال القمر إلى مواد بناء باستخدام أشعة الشمس
تركيا.. حريق بمعمل للعطور يخلف 6 قتلى
المغرب.. إطلاق الجيل الخامس للاتصالات