الثبات ـ فلسطين
العالم كله يتذكر تصريحات وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت في أكتوبر عام 2023، عندما اعلن وبكل وقاحة: "لن يدخل كهرباء، ولا طعام، ولا ماء إلى غزة، نقاتل حيوانات بشرية وسنتعامل معهم على هذا الأساس"، حينها لم يهتم الكثيرون بهذا التهديد، واعتبروه ردة فعل انية فرضتها الضربة الموجعة التي وجهتها المقاومة الفلسطينية لجيش الاحتلال في السابع من اكتوبر من نفس العام.
هناك من لم يتوقع مطلقا ان ينفذ كيان الاحتلال تهديدات غالانت، لانها بصراحة كانت دعوة لابادة مليونين ونصف المليون انسان، عبر سلاح التجويع، وهو امر لا يمكن تصوره ونحن نعيش القرن الحادي والعشرين وثورة المعلومات، فالعالم، وخاصة العالم الغربي "الرافع دوما لوﻻء حقوق الانسان"، لا يمكن ان يسكت على مثل هذه الجريمة الوحشية في حال حصولها، وسيدفع الكيان الاسرائيلي اثمانا باهظة اذا ما ارتكبها، وقد يخسر التاييد والدعم الاوروبي والغربي والامريكي.
هذا التوقع لم يحصل، و العالم الغربي " المتحضر"، لم يتستر على سياسة التجويع الممنهج والابادة الجماعية التي نفذها الكيان الاسرائيلي في غزة منذ 22 شهرا فحسب، بل ساهم وبشكل مباشر في الجريمة، واما المواقف الاخيرة لبعض قادة اوروبا والغرب والتي لمحت الى وجود تجويع، الا انها لم تدن منفذها، كانت تلميحات قيلت على استحياء لامتصاص الغضب الشعبي الذي عمّ مدن اوروبا، بعد ان تكشّفت الجريمة امام الراي العالم العالمي بالصوت والصورة.
من اجل ان ينفذ نتنياهو وعصابته جريمتهم الوحشية وبسرعة وبدون منغصات، لم يدن الغرب سياسة اغلاق المعابر التي كانت تمر من خلالها المساعدات الى غزة، ولم يكتف الغرب بذلك، بل شارك وبشكل مباشر في الجريمة عندما اوقفت العديد من الدول الأوروبية وكذلك امريكا تمويلها لوكالة الأونروا، المسؤولة عن توزيع الغذاء وكذلك التعليم في قطاع غزة، بذريعة مشاركة بعض موظفيها في هجمات 7 أكتوبر، وهي ذريعة فندتها الامم المتحدة والمحافل الدولية وبالادلة والوثائق، ولكن دون جدوى.
مبعوث الرئيس الامريكي الى المنطقة ستيف ويتكوف قام بمسرحية سخيفة، تمثلت بزيارته الى غزة والتي استغرفت اربع ساعات، بذريعة "الاطلاع عن كثب" على الوضع الانساني في غزة، الا انه وبدلا من ان يزور الجياع وكمائن الموت التي كانت تحصد المجوعين وهم يتهافتون للحصول على حفنة من الطحين، ويتساقطون برصاص جيش الاحتلال، نراه اجتمع بقادة الجيش الاسرائيلي الذين اسمعوه ما كان يريد سماعه، فنقل ما سمع الى رئيسه ترامب، الذي خرج على العالم ليبشرهم انه ليست هناك اي ابادة جماعية غي غزة!.
المؤسف ان ادارة ترامب، تستهين بعقول الشعوب، فهي تتجاهل كل الافلام والصور التي تنقل عبر الفضائيات وبشكل مباشر حجم الماساة التي يعيشها اكثر من مليوني انسان في غزة، بسبب المجاعة والقصف، وتتجاهل حتى تقارير اعلامها وصحافتها التي تنقل حقيقة ما يجري في غزة، وتتجاهل ايضا تقارير المنظمات الدولية وعلى راسها منظمة الامم المتحدة، عن الابادة والمجاعة في غزة، وكذلك تتجاهل مذكرات ألاعتقال الصادرة بحق نتنياهو وغالانت من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وفي المقابل نراها تعتمد على اكاذيب جنرالات جيش الاحتلال حصرا، وهو موقف يكشف عن نية واضحة لهذه الادارة لافساح المجال امام جيش الاحتلال لاتمام مهمته في اخلاء غزة من اهلها وتغييرها ديمغرافيا، عبر التجويع والاذلال، بعد ان عجزت عن تحقيق ذلك عبر القتل المباشر.
من الصعب جدا ان تتجاهل امريكا تقارير المنظمات الدولية، التي تعتبر هي احدى مموليها، عن المجاعة في غزة، مثل تقرير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) الذي اشار الى أن أكثر من 133 ألف شخص (حوالي 6٪ من سكان غزة) يعانون حاليا من انعدام الأمن الغذائي في المرحلة الخامسة (المجاعة الكارثية)، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 345 ألفا بحلول أبريل 2026.
من جهة أخرى، يُظهر تقرير نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) أن 93٪ من سكان غزة (حوالي 1.95 مليون نسمة) يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بينما يعيش 244 ألفا في ظروف كارثية. وهذا يعني أن جميع سكان غزة تقريبا يواجهون مستويات مختلفة من الجوع وانعدام الأمن الغذائي، وهي أوضاع تزداد سوءا يوما بعد يوم.
وقد كان للجوع والمجاعة المتصاعدة في قطاع غزة تأثير كارثي على الفئات الضعيفة، خاصة "الأطفال" و"النساء الحوامل". أفادت اليونيسف أن 71 ألف طفل دون الخامسة و17 ألف امرأة حامل يحتاجون إلى علاج عاجل من سوء التغذية. كما تم الإبلاغ عن زيادة حالات الإجهاض، وولادة أطفال ناقصي الوزن أو مشوهين بسبب الجوع وغياب الرعاية الطبية.
كما يجذب ارتفاع عدد الوفيات بسبب الجوع والمجاعة في غزة انتباه العالم. وفقا لوزارة الصحة الفلسطينية، فقد مات ما لا يقل عن 127 شخصا، بينهم 85 طفلا بسبب الجوع وسوء التغذية حتى يوليو 2025.
الشيء المهم الذي غاب عن الادارة الامريكية، هو ان التجويع لا يمكن ان يحقق اهداف الثنائي الامريكي الاسرائيلي في غزة، عجزت عن تحقيقها من قبل القوة العسكرية المتوحشة على مدى نحو عامين، والايام القادمة ستؤكد هذه الحقيقة.