الثبات ـ دولي
لم يحدث خلال الحياة الشريفة للإمام التي امتدت عشر سنوات من بعد انتصار الثورة أن تردد لحظة واحدة بسبب ضخامة تهديد العدو في أي بُعد من الأبعاد.. لم يرتعش يوما أمام التهديد، ولم يَزِلّ ولم يتراجع ولم يتنازل .. فأدرك أعداء الثورة ولمسوا بالتجربة أن الإمام لا يمكن إرعابه أو إزاحته من الساحة بالخوف والتهديد.. ولا يمكن ثنيه عن نهجه". هذا الكلام عن شخصية الأمام الخميني (ره) هو لتلميذه ومريده واقرب حواريه، قائد الثورة الإسلامية اية الله السيد علي الخامنئي.
اليوم وبمناسبة حلول الذكرى الـ36 لرحيل الإمام الخميني قدس سره، نحاول أن نتناول في هذه السطور جانبا من شخصية الأمام التي تطرق إليها اية الله الخامنئي، وهو جانب ثبات الأمام على المبدا وعدم تزحزحه عنه مهما كانت الظروف، وكذلك ثبات مسؤولي الجمهورية الاسلامية وعلى رأسهم قائد الثورة الإسلامية السيد الخامنئي على ذات المبدا، وهو الثبات دون الأعتناء بالتهديدات والضغوط والحصار والحرب النفسية، كما تجسد وبشكل واضح في موقف ايران من القضية الفلسطينية ومن البرنامج النووي السلمي و بالتحديد قضية تخصيب اليورانيوم.
أن القضية الفلسطينية تعتبر محورا رئيسيا في فكر الأمام الخميني (ره)، فالامام كان يعتبر القضية الفلسطينية القضية المركزية للعالم الإسلامي، وان تحرير القدس واجب ديني وانساني، لذلك اتخذ موقفا رافضا من التطبيع مع الكيان الصهيوني، فهذا الكيان لم ولن يكتف بفلسطين فهو كالغدة السرطانية لايمكن التأقلم معها إلا باجتثاثها، ومن اهم العوامل التي تسرع باجتثاث هذه الغدة السرطانية، وفقا لرؤية الامام، هو وحدة المسلمين ونبذ الفرقة المذهبية والطائفية والاعتصام بالوحدة والمشتركات التي تربط المسلمين بعضهم ببعض.
هذا الموقف المبدئي للامام الخميني، بقيت ايران متمسكة به رغم التكلفة السياسية والاقتصاديه الضخمة التي دفعتها ايران وتدفعها على مدى أكثر من45 عاما، ولم تتنازل عنه رغم تعرضها لحرب ظالمة و غادرة على مدى ثماني سنوات شنها الغرب والشرق على الجمهورية الاسلامية الفنية، عبر عميلهم الذليل صدام حسين، على امل أضعاف ايران وثنيها عن دعم الشعب الفلسطيني، ولكن دون جدوى، فبقي الأمام الخميني (ره) حتى الرمق الأخير يوصي القيادة والشعب الايراني بعدم ترك الشعب الفلسطيني وحيدا، مهما كانت التضحيات.
وهذا الذي حدث بالفعل، فبعد رحيل الأمام استلم دفة قيادة الثورة الإسلامية تلميذه الوفي والشجاع السيد الخامنئي إلذي لم يتزحزح عن نهج الأمام قيد انملة، فبقي ثابتا على المبادىء الأساسية لمفجر الثورة الإسلامية، أزاء كل القضايا المصيرية لايران والعالم الإسلامية، فلم يحدث أي تغيير في موقف الثورة بعد الأمام تجاه القضية الفلسطينية، أو تجاه رفض الانتماء إلى الشرق أو الغرب، أو للتنازل عن السيادة أو الاستقلال، فبقيت القيادة في ايران متمسكة بنهج الاسلام المحمدي الاصيل، و الاستقلال، ونفي التبعية لغير الله، وعدم فصل الدين عن السياسة، ونصرة المحرومين والمستضعفين والدفاع عنهم في كل مكان، ورفض الهيمنة.
من اجل أن تتظافر جهود جميع المسلمين وتجنيد جميع امكاناتهم العسكرية والمادية والسياسية، بهدف تحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وضع الأمام الخميني (ره) الوحدة الإسلامية كرافعة لهذا الهدف، وطالب المسلمين بعدم التقوقع في المذهب وجعل المذهب سدا أمام وحدتهم، وعمل على فضح الطائفيين الذين كانوا يستخدمون كأبواق للصهاينة، لضرب وحدة المسلمين وتفتيتها.
في هذا الشأن يقول الأمام (ره): "إن الأيدي التي تريد أخذ ثرواتكم منكم ونهبها، ومصادرة كل ما تملكون من خيرات سواء فوق الأرض أو تحتها، إن هذه الأيدي لا تسمح باتّحاد إيران مع العراق، ولا إيران مع مصر، ولا إيران مع تركيا...، يريدون الا تتحقق وحدة الكلمة". ويقول أيضا: "إن الذين يدّعون الإسلام، ويسعون من أجل زرع الفرقة والتنازع لم يجدوا ذلك الإسلام الذي كتابه القرآن، وقبلته الكعبة، ولم يؤمنوا بالإسلام. إن الذين آمنوا بالإسلام إنما هم الذين يقبلون القرآن ومحتوى القرآن الذي يقول ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ فيلتزمون بكل ما تقتضيه الأخوّة. تقتضي الأخوة أن يتأثر جميع الإخوان أينما كانوا إذا ألمّت بكم مشكلة، وأن يفرحوا جميعاً لفرحكم".
هذا الموقف الصلب للأمام الخميني (ره) من فلسطين والوحدة الإسلامية هو ذات موقف السيد الخامنئي اليوم، فالعالم اجمع رأى اليوم كيف سار القائد على نهج الامام، فلم يترك فلسطين وحيدة ودفعت ايران اثمانا باهظة لنصرة غزة وقدمت قوافل من الشهداء على طريق القدس قبل واثناء معركة طوفان الأقصى و مازالت ومنذ اكثر من أربعة عقود تعيش حصارا خانقا بسبب موقفها هذا، بل واكثر من ذلك قدمت قوافل من الشهداء للحفاظ على سيادة وجغرافيا الدول العربية، وهو موقف يتناقض كليا مع السياسة الامريكية والاسرائيلية ولاذنابهم من المجموعات التكفيرية والطائفية مثل "داعش" واخواتها.
اما مبدا"رفض الهيمنة" والذي استبطنه شعار لا شرقية ولا غربية جمهورية اسلامية، الذي اطلقه الأمام الخميني (ره) بداية الثورة، فمازال بذات القوة والاندفاع، فعلى ضوئه تهتدي السياسية الايرانية. فقبل أيام القى وزير الخارجية الايرانية عباس عراقجي كلمة في مرقد الإمام الخميني (ره)، تطرق فيها إلى هذا المبدا الذي سنه الأمام و قال: "بصفته مهندس الثورة الإسلامية، فإن الإمام الراحل هو أيضا مهندس السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية، والتحرك الذي نقوم به اليوم بعد الثورة يرتكز على الهندسة التي وضعها في السياسة الخارجية. إن أساس هذه السياسة الخارجية يرتكز على فكرة ومبدأ رفض الهيمنة"
ومن أجل الا يساء فهم هذا الشعار قال عراقجي: إن الركيزة الأساسية للسياسة الخارجية تقوم على مبدأ نفي الهيمنة، وإن سياسة "لا شرقية ولا غربية" تعني نفي هيمنة الغرب والشرق، وليس نفي العلاقة مع الشرق والغرب.
ومن التطبيقات العملية لهذه السياسية اشار عراقجي إلى المفاوضات غير المباشرة بين ايران وأمريكا حول البرنامج النووي الايراني السلمي وقال: هناك الكثير مما يمكن قوله عن التخصيب كأحد الاحتياجات الأساسية للبلاد، ولكن في المفاوضات، لدينا محور عمل آخر يعود إلى نفي الهيمنة. عندما يقولون إنه لا ينبغي أن يكون لديك تخصيب، فهذه ممارسة للهيمنة. يقولون إننا نشعر بالقلق. ولأنهم قلقون من أن الشعب الإيراني لا ينبغي أن يكون لديه تخصيب، فهذا أمر غير مقبول للشعب الإيراني. وليس من حقهم حرمان الشعب الإيراني والأجيال القادمة من الحق الذي منحه لهم القانون الدولي، فالطاقة النووية حق لا جدال فيه للشعب الإيراني، وليس من حقهم، حرمان الشعب الإيراني من حقوقه".
هذا الموقف القوي لوزير الخارجية الايرانية لم يأت من فراغ، لاسيما انه يتفاوض مع أكبر قوة متغطرسة وعدوانية في العالم، فهذا الموقف نابع من افكار ونهج الأمام الخميني وقائد الثورة الإسلامية، ونابع ايضا من الحق الايراني المشروع في امتلاك برنامج نووي سلمي وفقا للمعاهدات والقوانين الدولية، ونابع ايضا من قوة الردع الهائلة التي تمتلكها ايران، والتي اجبرت امريكا المتغطرسة على التفاوض مع ايران.
كما بدانا مقالنا هذا بحديث لقائد الثورة عن شخصية الأمام (ره)، ننهي المقال بحديث لسماحته ايضا عن الأمام وثباته على مواقفه رغم كل الصعاب ورغم كبره. حيث يقول سماحته: "لقد استطاع الأمام تحمل جميع المشاق في الكِبَر، وعندما تسلم قيادة الثّورة العظيمة كان في الثمانين من عمره، وقادها بتبعاتها العظيمة التي شاهدتموها حتى سن التسعين. ولم تهز هذا الجبل الراسخ قط تهديدات أمريكا، والاتّحاد السوفياتي، واتّحاد القوتين العظميين، وحرب السنوات الثماني، والهجوم الأمريكي على طبس، والحظر الاقتصاديّ والإعلامي والسياسي وغيره، "لا تحركه العواطف"، لهذا استطاع أن ينتصر".
اما منشأ هذه الاستقامة والثبات برأي السيد الخامنئي ترجع إلى أصل قرآني، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا. وفي آية أخرى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾. هذه العقائد ابقت الإمام حيا وشابا، وخلدت فكر الإمام وطريق الإمام. إن طريقة الإمام عند هذا الشّعب بعثت الأمل والثقة بالنفس والتوكّل على الله. لقد حلّت مكان اليأس والظُلمة والتشاؤم. لقد غير الشعب الإيراني روحيته، فغير الله ما بهم: ﴿إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمُْ﴾.