خاص الثبات
في ظل استمرار الإبادة الوحشية في قطاع غزة، وفي عالمٍ تتشابك فيه مصالح قوى الشر، وتُشوه حقيقتَه آلة إعلامية ضخمة ومضللة، يصبح فهم ما يجري في القطاع الأسير أمراً مستحيلاً، بمعزل عن إدراك طبيعة المشروع الاستعماري العميق الذي أشعل فتيل هذا الصراع.
إن المفاوضات المتعثرة الجارية ومحاولات التوصل لوقف إطلاق النار، التي تُقدم أحياناً بصورة مضللة، ليست سوى فصل جديد في مسرحية متقنة يُخرجها الاحتلال الصهيوني ببراعة لافتة؛ تتستر خلف لغة السلام لتكريس احتلالها، وتناور بورقة الأسرى كذريعة لمواصلة حرب الإبادة، وترفع شعار "استعادة الرهائن"، فيما ترفض وقف العدوان الذي يمثل السبيل الوحيد لإنقاذهم.
السياق الحقيقي الذي فرض المفاوضات
إن تقديم المفاوضات الراهنة على أنها مسعى إنساني يهدف إلى إطلاق سراح الأسرى ووقف القتال هو تضليل فاضح لحقيقةٍ راسخة؛ هذه المفاوضات ليست إلا جزءاً لا يتجزأ من مشروع أعمق يرمي إلى تصفية القضية الفلسطينية برمتها. لم يُجبر العدو الصهيوني على الجلوس إلى طاولة التفاوض نتيجة تحول في عقيدته العدوانية، بل كانت محصلة ضغط داخلي غير مسبوق، فرضته صلابة المقاومة وصمودها وتكبيدها الاحتلال خسائر فادحة. هذا الضغط تجلى في تصدع غير مسبوق داخل المؤسسات الأمنية الصهيونية، وانقسام مجتمعي حاد، وتزايد مطالبات عائلات الأسرى الصهاينة، بمن فيهم قادة سابقون في الجيش، بإنهاء الأزمة.
هذا المناخ الداخلي المتأزم هو ما دفع رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، إلى طرح شرط تعجيزي يهدف إلى نسف أي فرصة للتوصل لتسوية حقيقية: نزع سلاح غزة. هذا المطلب ليس فقط غير قابل للتفاوض من منظور المقاومة، بل هو اعتداء سافر على جوهر القضية الوطنية الفلسطينية وحق الشعب المشروع في الدفاع عن نفسه، ويصطدم بإجماع وطني فلسطيني راسخ وغير قابل للمساومة.
خطاب "إعادة الأسرى": غطاءٌ للإبادة
يتلاعب نتنياهو بملف الأسرى الصهاينة في غزة بسياسة خبيثة ومكشوفة؛ يتظاهر بالسعي لتحريرهم بينما يضع شروطاً يعلم يقيناً أن المقاومة لن تقبلها. هذا التكتيك يتيح له التنصل من المسؤولية وإلقاء اللوم على حركة حماس أمام الرأي العام الصهيوني، ليبرر بذلك استمرار حربه الإبادية. وفي المقابل، تتعالى الأصوات من داخل الكيان نفسه، بما في ذلك قادة معارضة بارزون كياير لبيد وياير غولان، متهمةً حكومتَه بعرقلة أي صفقة محتملة ووصف استمرار الحرب بأنه "تضحية بحياة الأسرى من أجل البقاء السياسي" لنتنياهو. حتى وسائل الإعلام الصهيونية، في لحظات نادرة تكشف فيها الحقائق، بدأت تفضح تناقضات الخطاب الرسمي. وتتزايد العرائض والاحتجاجات التي تطلقها عائلات الأسرى، والأطباء العسكريون، وجنود الاحتياط، مطالبين بوقف هذه الحرب العبثية. بل ويشهد الجيش نفسه حالة غير مسبوقة من التململ والاستياء، أجبرت قياداته على اتخاذ إجراءات قمعية وإعادة توزيع الجنود في محاولة احتواء هذا التمرد المتزايد.
دوافع الإصرار الصهيوني على العدوان
نتنياهو، كما يصفه خصومه، يخوض معركة يائسة ضد الزمن، أي نهاية سريعة للحرب تعني فتح ملفات المحاسبة الداخلية والدولية على المجازر المروعة التي ارتكبها جيشه، والخسائر الفادحة التي تكبدها، والفشل الاستخباراتي المدوي الذي انكشف في السابع من أكتوبر. لذلك، فإن استمرار القتال - حتى لو كان بلا أفق استراتيجي واضح - هو الوسيلة الوحيدة لحماية وجوده السياسي وبقائه في السلطة، بقاءٌ بات مرهوناً باستمرار نزيف الدم الفلسطيني. علاوة على ذلك، يرى العدو الصهيوني في هذه الحرب فرصة تاريخية لإعادة تشكيل الواقع الجغرافي والسياسي في قطاع غزة، تحت شعار مضلل هو "مرحلة ما بعد حماس"، وشرط نزع السلاح يمثل المفتاح لهذه المرحلة التي تهدف إلى تحويل غزة إلى كيان منزوع القوة والسيادة، خاضع لرقابة دولية ومحلية تدور في فلك الاحتلال.
في المقابل، تمارس المقاومة الفلسطينية تكتيكاً راسخاً ودقيقاً، يعكس إرادة الشعب الفلسطيني الثابتة في الحرية والكرامة. ترفض المقاومة أي تسوية مجتزأة لا تفضي إلى إنهاء شامل للعدوان ورفع كامل للحصار، لكنها لا ترفض مبدأ التفاوض كأداة سياسية يمكن من خلالها فرض شروطها المشروعة. تصر المقاومة على صفقة شاملة ومتكاملة تنهي الحرب بشكل دائم وتحقق إنجازاً سياسياً وعملياً يؤكد أن إرادة الشعب لا يمكن كسرها وأن المقاومة لا تُهزم. من هنا، فإن التمسك بسلاح المقاومة لا يُفهم كعقيدة إيمانية متجذرة فحسب، بل كأداة قوة حاسمة في الميدان السياسي وفي أي عملية تفاوض مستقبلية.
في ظل ميزان القوة العسكرية المختل بشكل صارخ، لم يعد سلاح المقاومة مجرد أداة دفاع، بل تحوّل إلى ورقة تفاوض مركزية لا يمكن تجاوزها، تماماً كما كانت أدوات المقاومة المحدودة لدى حركات التحرر الوطني في فيتنام والجزائر وغيرها، التي استخدمت قوتها النوعية لفرض شروط تفاوضية كبرى على قوى استعمارية تفوقها عسكرياً بأشواط.
سيناريوهات المستقبل في ظل الصمود
التواطؤ الدولي والعربي والصمت الإعلامي المريب
لا يقل إيلاماً وتأثيراً عن ممارسات الاحتلال الصهيوني نفسه، التواطؤ المفضوح والصمت المريب للمجتمع الدولي والعربي، الذي لا يزال يُصرّ على شيطنة المقاومة الفلسطينية واعتبارها "عقبة" في طريق سلام وهمي، بينما يغض الطرف بشكل ممنهج وفاضح عن جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها العدو الصهيوني يومياً بحق شعبنا. بل وتُواصل بعض الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، دعم الاحتلال بالسلاح الفتاك وتوفير الغطاء السياسي له في المحافل الدولية، في تكرار مشين لدعمها السابق لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. أما آلة الإعلام الغربي المهيمنة، فلا تنفك تعيد تدوير الرواية الصهيونية الكاذبة: اختزال قضية شعب بأسره تحت الاحتلال في مجرد مسألة "رهائن"، وتجاهل حقيقة أن قطاع غزة بأكمله محتجز ويعيش في ظروف حرمان من أبسط حقوق الإنسان والحياة الكريمة بفعل الحصار الخانق والعدوان المتواصل. هذه الهيمنة الإعلامية ليست مجرد تحيز، بل هي جزء أصيل من المعركة، تهدف إلى شرعنة الظلم وتغليفه.
ما بعد الرفض: تثبيت الحق والصمود
المقاومة ترفض الصفقة الجزئية لأنها لا تلبي تطلعات شعبنا ولا توقف العدوان الشامل والمنظم. المعارضة في الكيان المحتل تتهم نتنياهو بتقويض المفاوضات خدمةً لمصالحه الشخصية البحتة. وفي كل لحظة، يُذبح ويُجوّع الشعب الفلسطيني الأعزل. يبقى السؤال الجوهري إذن: هل هناك حلول مطروحة؟ بل: هل ثمّة رغبة حقيقية لدى القوى الفاعلة في إنهاء الظلم بشكل جذري ودائم؟ لا يتفاوض الاحتلال من أجل سلام عادل وشامل، بل يسعى لفرض شروط الاستسلام الكامل وتصفية الحقوق الوطنية المشروعة، وكل مبادرة أو تسوية لا تفضي إلى إنهاء كامل للاحتلال، وفك شامل للحصار، وإعادة الحقوق الوطنية لشعبنا، ليست سوى محاولة لكسب الوقت لالتقاط الأنفاس واستعادة القدرة على مواصلة القتل والتدمير. في خضم هذا المشهد المعقد والدموي، يبرز خيار المقاومة ليس مجرد تكتيك عسكري أو رد فعل لحظي، بل كفعل وجودي، أخلاقي، وضرورة استراتيجية لا يمكن التنازل عنها. إنه إصرار على الحياة الكريمة والتحرر في مواجهة مشروع استعماري عنيف وقاتل لا يفهم إلا منطق القوة التي يُجبر عليها. المقاومة هي الضمانة الوحيدة لصون الحقوق وتحقيق التحرير المنشود والعدالة الغائبة.