سوريا... تاريخٌ فوق الأكتاف

الجمعة 31 كانون الثاني , 2025 09:40 توقيت بيروت لـبـــــــنـان

الثبات ـ لبنان


«التاريخ فوق أكتاف الجميع»، هكذا قرأت العنوان للمرة الأولى، أحد العناوين الداخلية لكتاب فهمي هويدي «إيران من الداخل»، الصادر في ثمانينيات القرن الماضي، وبقي في الذاكرة، اليوم، وبتأثير ما يجري في سوريا، وجدت نفسي أكتب تحت العنوان «بتصرف».
من القرن السابع للميلاد، يستحضر البعض التاريخ، لكن هذا البعض يُصرّ على حمله فوق الأكتاف بجثث أقدميه، يستحضره مشوّهاً ومحرّفاً، يساعده تعدّد نسخاته في القضايا الخلافية، وما يُجَدَّدُ منها بصبغةٍ مقدّسة، ويحوّلها لفتنة في الحاضر، وقد لا تكون مصادفة أن هذه الجديدة تأتي بعد «طوفان الأقصى»، فتنة تُشوِهُ الحالةَ الجميلةَ التي جمعت غزةُ الأمّةَ عليها، بهذه البشاعة والسرعة، يُرادُ قتل النموذج، وتلويث الذاكرة بعد حرب الإسناد التي فتحها حزب الله والحلفاء، والتي دفع الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله وقادةٌ كبار، حياتهم فداءً فيها.

تزخر الصفحات الإلكترونية بقصصٍ حول التنكيل والتعذيب في سوريا، وتتحوّل مادةً خلافية بين مُصَدّقٍ ومُكَذّب، ومن يحاول إثبات حدوثها ومن ينفي، لكن ذلك لن يمنع القول إن المشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الشاشات تحدث فعلاً، وتبقى كل ردود الفعل حولها قاصرة، تبريراً أو شرحاً، وهذا يضعك بمواجهة إنسانية وأخلاقية، ولن تستطيع التغاضي، وتتساءل، هل تُعلِّق، هل تستطيع قولَ رأيك الرافض، من غير أن تجد نفسك تحت وابلٍ من الاتهامات؟ تقرأ التعليقات، ترى حقداً وكراهيةً يطغيان على «النقاش»، لا أعرف توصيفاً دقيقاً، والأكيد أنه ليس نقاشاً، مثلما لا يصح مصطلح «تفاعل اجتماعي»، فلا هو تفاعل، ولا هو اجتماعي، وسترى أيضاً أن لا قيمة لأصوات العقل والمنطق، ففي غابات الغوغاء هذه، المناداة بالأخلاق فعلٌ عبثيٌ، وحقيقةً لا أملك إجابةً عن سؤال «ماذا تفعل»، لكن الأكيد أن لا حكمة في دخول نقاش كهذا. وهنا، على هذه الصفحة البعيدة عن ذلك المكان البشع، أستطيع القول إن هذه الاعتداءات، هذا القتل لا يمتّ للحضارة والأخلاق والدين بصلة، مهما كانت الأسباب، لأن «إحقاق العدالة» بهذا الشكل، يجرّدها من قيمها الإنسانية.

فجأة، وعلى قاعدة «الأيام دول» تذكَّرَ أو اكتشفَ البعض مذهبيّته (الكلام عام ولأصدقاء شيعة وسنّة)، كيف يمكن في هذا الظرف أن تظهر نزعةٌ مذهبيةٌ عند البعض ممّن قضوا أعمارهم حريصين على العقلانية والانفتاح الديني، على يساريّتهم أو علمانيّتهم، يجب سؤالهم، وهم كثر، هل كان النظام السوري ظالماً أو فاسداً لأن علويّاً يترأّسه، أم كان ظالماً وفاسداً لظلمه وفساده، هل كان الأمر حصراً برأس الحكم (ولا أساوي بالمسؤولية بين أركانه)؟ على السوريين النظر إلى الجارَين لبنان والعراق، فمروراً ببلدهم، الفساد عابرٌ للأديان والطوائف، وجامعٌ لتجار الدين والمذهبيين على قلب «فاسد» واحد، والفقراء في البلدان الثلاثة يجمعهم الولاء لزعمائهم ولقادة طوائفهم، أكثر ممّا يجمعهم فقرهم.

مع الأسف، تبقى الاختلافات الدينية والمذهبية في قمة المواد القابلة للاشتعال والإشعال، والتاريخ يخبرنا، كم من السهل تحويل الاختلافات إلى خلافات، ثم تُرمَى في ساحة «المقدس»، وسط جمهور يُخَبِّئ جاهليّته في البيوت ومدارس أبنائه وجامعاتهم، والمنابر كثيرة و«غب الطلب». الاختلافات «الأجدى» هي بين السنّة والشيعة، أثبتت فعاليتها كفتنة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، سُعِّرَت باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأحداث السابع من أيار في بيروت كانت تسعيراً آخر، ثم تابعت بمرحلتها السورية منذ عام 2011، واليوم بالإمكان إلحاق العلويين بالشيعة، هكذا، يسهل «مذهبة» الوجود الإيراني في سوريا، وتأطير مشاركة حزب الله في ساحة المذهب لا السياسة، وإخراجها من دائرة الصراع مع الإسرائيلي والأميركي. ويصير أقرب إلى الفهم، لماذا الآن استحضار الفترة الأموية، والدخول الطوعي، ودفع من يتخلّف من أطراف «الغوغاء» إلى المواجهة «التاريخية»، ويترافق هذا مع قرارات «حمَّالة أوجه» للإدارة السورية الجديدة، بأسبابها وأهدافها، بين أن تُقرَأ في السياسة أو الدين، ما يعني المذهب قبل الدين.

بالإمكان تقسيم الموغلين في الفتنة، بين من يفعل بقرارٍ وظيفي، ومن يفعل بقرارٍ ذاتي، وآخر يفعل عن غير وعيٍ وإدراك، ثم هناك فئة، هي نفسها لا تعرف ما تفعله، لكن الأخطر، من يوغل في الفتنة بلبوس «مقدس»، من باب «الواجب على قول الحق»، «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». وحين يكون هذا الشخص مؤثراً ومسموعاً، والمنابر كثيرة كما قلت، فقسم كبير من الجمهور، سيسمع صوته قادماً من السماء، وعلى كرهي لكلمة «قطيع»، لكن هذه الآفة، هذا الـ«فايروس»، يتفشى في هذا الحيّز، وثمة من يستخدمه ويطوّره في هذا الحيّز. وهنا، سنرى عواصمَ عالمية وإقليمية تتحكّم بهذه اللعبة الجنونية، أمرٌ يشبه اللعب بالنار.

في الميثولوجيا اليونانية، ثمة أسطورة تربط اكتشاف النار بحقبة «التيتان»، تقول إن حكيماً علَّمَ البشرَ الفنونَ الجميلةَ والحضارية عبر سرقة سرّ النار من جبل «أولمبوس»، في تحدٍّ للآلهة الأولمبية، لكن، لم تخبرنا الأسطورة متى وكيف استطاع الإنسان التحكم بالنار.
في أطوار ارتقائه، أطلق العلماء تسمية «الإنسان المنتصب» على أسلافنا القدامى، وتختلف النظريات، متى استطاع «الإنسان المنتصب» التحكم بالنار، اليوم، أكثر ما يرعبنا أن يلعب الأطفال بالنار، والظاهر أن ليس الأطفال فقط من يميلون إلى اللعب بها، هناك «كبار» يلعبون بالنار، ولا يهتمون كثيراً، أيستطيعون التحكم بها أم لا؟ وهنا، بعكس الميثولوجيا الإغريقية، لا فنون ولا حضارة، اليوم، ثمة من يحسب أن لديه تفويضاً سماوياً، أو عليه واجبٌ دينيٌ بـ«جهنم» أرضية، ليفوز بجنة السماء. قد لا يدرك هذا البعض طبائع النار في التمدد، ولكن، ألا تدرك ذلك العواصم التي تضع لعبة النار بين الأيدي، وفي داخل هذه العواصم كل العناصر القابلة للاشتعال، ولديها، ومن أبنائها، كل ما قد يشعل في لحظة مجنونة، ناراً في عقر دارها؟
اللغة فقط ستختلف في صرخات الاستغاثة.

محمد المقهور


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل