الثبات ـ لبنان
عائلة المرّ القيّمة على قناة mtv اللبنانية تشبه كثيراً عائلة ماكمان الأميركية. عائلة آل ماكمان التي تؤيد دونالد ترامب بشدّة، وارتبط اسمها بصناعة الترفيه، تحديداً في المصارعة الحرّة. الفرق بين العائلتين يكمن في أنّ مشكلات البيت عند آل ماكمان كانت تُحلّ على حلبة المصارعة من أجل خلق الفُرجة. لم تكن مشكلات حقيقيّةً بقدر ما هي قصّة مكتوبة محضّرة سلفاً، يقوم أفراد العائلة بتمثيلها وبتأدية الأدوار بغرض التسلية، بينما عائلة «المرّ تي. في» لا تعرف سوى المصارعة الحرّة لحلّ المسائل المنزلية كما المسائل المتعلِّقة بالشأن السياسي.
في تحقيبٍ سريع، نعود إلى مطلع الألفيّة الثانية. خاصم غابريال المرّ، مؤسِّس «إم. تي.في»، ميرنا المرّ، ابنة شقيقه، في الانتخابات النيابية عام 2002. خرجت تلك «المنافسة» عن طورها، وانتقل الاختلاف السياسي إلى خلافٍ عائليٍّ طال الأشقّاء. أغلقت «إم. تي. في» وافترق ميشال وغابريال. بعد أكثر من عقدٍ، انطلقت «إم تي في» من جديد، وترأس جهاد المرّ، الذي يُفضّل طرد حرف الهاء من اسمه ليغدو «جياد»، وهو ابن غابريال المر، المجلس التنفيذي للقناة، وصار واجهتها الإدارية. لم تدم أوقات الوئام العائليّ طويلاً. سرعان ما اختلف «جياد» مع والده غابريال وصارا بمنزلة غريمين. لاحقاً، سينقلب جهاد أو جياد، على شقيقه ميشال، وفي ما بعد سيرفع غابريال الوالد، وميشال الابن وكارول الابنة، دعوى قضائية على جهاد، أو جياد، بسبب خلافاتٍ تخصّ إدارة المحطة وأشياء من هذا القبيل.
هكذا، دائماً ما كانت مشكلات هذا المنزل تأخذ طابعاً حادّاً، وغالباً ما آلت العلاقات الشخصية إلى القطيعة. مشكلات تبدو أقرب إلى نزاعاتٍ عنيفةٍ تترامى أمامنا، نحن الجمهور، الذين نتابع قصّة هذه العائلة كأنّنا نشاهد مسلسل تلفزيون الواقع، أو تلك النزالات التي جمعت آل مكمان ببعضهم كما أخرجوها وصوَّروها في الـWWE . قد يحول غياب «الصهر» الذي يمثّله «تريبل إيتش» عند آل مكمان أمام اكتمال التماهي التام بين العائلتين؛ غير أنه في وسعنا اعتبار مارسيل غانم بالنسبة إلى «المر تي. في»، بمنزلة تعويض عن الصهر الغائب، فبينه وبين «تريبل إيتش» صهر آل مكمان، عدد من السمات المشتركة، أبرزها أنّه الشخصية المكروهة والمحبوبة في آنٍ، كما أنهما يشكّلان العلامة البارزة لهذه العوالم: كلّما قلنا مصارعة حرة أو ذكرنا آل مكمان، تراءى لنا «تريبل إيتش». الحال نفسها عندما نقول «إم. تي. في»، حيث أول ما يتبادر إلى أذهاننا هو مارسيل غانم.
تشبه عائلة المرّ آل مكمان في جوانب عدة أبرزها المصارعة الحرّة. ما يحدث داخل حلبة المصارعة الحرّة من تمثيل، وقتال، وجوٍّ محموم، واستفزاز وتحريض على الآخر، وخطاب موقود بالحقد يجري داخل استوديوهات «إم. تي. في» أيضاً. الجمهور داخل الاستوديو أو المتسمّر وراء شاشات التلفزة، مثل جمهور المصارعة الحرة، يشارك في المَشهد المعروض أمامه. الضرب الذي يحدث في حلبة المصارعة الحرّة، قد يحصل في استوديو «إم. تي. في». هنا يتفوّق الحقيقيّ المرتجل على التمثيل المحضَّر مسبقاً. يُشاع أنّ أحد مدرِّبي رياضة الكاراتيه يدرُس اللكمة التي وجّهها وئام وهاب إلى سيمون أبي فاضل في إحدى حلقات «صار الوقت».
الأحداث التي تجري خارج حلبة المصارعة الحرّة ويُراد منّا اعتبار هذا «الخارج» أشبه بالكواليس، تجري أيضاً في أروقة «إم. تي. في». لعلّ آخرها هو الطرد التعسّفي التي تعرّضت له الصحافية إلسي مفرج لأنّها اعترضت على قرار القناة في رفعها دعوى قضائية بحقِّ ناشطين وصحافيين، أو لأنها منتسبة إلى نقابة «الصحافة البديلة» التي استنكرت خطوة المحطّة في الذهاب إلى القضاء. السبب الثاني أفظع من الأول على أيّ حال. خارج حلبة المصارعة، يحدث أن يغشَّ المصارع: نراه مثلاً يستعين بأدواتٍ يمنعه قانون اللعبة من استعمالها، وعلى المنوال نفسه، تنحو «إم. تي. في» إلى التعاطي مع كل سلطة «خارجة» عن استوديوهاتها بالغشّ والمواربة: تسرق «إنترنت» من الدولة، تروّج لمعلوماتٍ مضلِّلة، وترصّع صورة أصحاب المصارف وأبطال الانهيار اللبناني... الانهيار التي تزعم «إم. تي. في» محاربة مسببيه.
لا يقتصر العنف في سياق «إم. تي. في» على الطرد التعسّفي، أو على «زعبرة» إعلامية، أو على نبرةٍ «ثقافيّةٍ» جهوريةٍ خشنة. ليس العنف هنا ما يبدو أنّه عكس اللياقة أو نقيض الرعونة. العنف في هذا السياق، هو ذاك «الإشباع» التي تريد المصارعة الحرّة تزويدنا به، وهو عنصرٌ جوهريٌّ بالنسبة إلى القناة. العنف بمعنى الإيذاء، مثلما هدفت القناة إلى افتعال الأذى في تقريرها المحرِّض على «مؤسّسة القرض الحسن». العنف بمعنى التشويه والتحقير، كالإهانة التي وُجِّهت إلى غنى غندور. والعنف، بمعنى الإفراط في القوّة عقب التخاطب. لو فككنا التقارير «الصحافية» التي تنشرها القناة، لاستطعنا استخراج كلّ العناصر التي تشكّل بنية الخطاب الحربيّ. التحدّي، المجاهرة، التهديد المبطّن، الوعيد المعلن... صفاتٌ كالمروءة، والفتوّة، و«الرجولة» يتمتّع بها الدون كيشوتيّون، هؤلاء المتحمّسون لمبارزة الهواء بسيوفهم، أو الذين يعملون في قناة لا تختلف كثيراً عن حلبة مصارعة آل مكمان. الأسلوب في هذه القناة مهمٌّ بقدر المعلومة. الأسلوب: مُباشر، شفهيّ جداً، عاميّ، صارخٌ، فظٌّ، لا يتوّجه للقريب ولا «للحليف» إنّما موجهٌ «للخصم». ليست القناة وسيطاً كما يُعرَّف الإعلام بأنّه كذلك؛ فـ «إم. تي. في» تنطق ولا تنقُل. في التقارير السياسية، يبتغي الأسلوب إثارة حنق «الخصم»، يفتعل الحريق ويجعل «الخصم» يشعر بحرارة اللهيب. علماء الاجتماع أو المنظّرون في الحقل الإعلامي كانوا ليصفوا ظاهرة مماثلة بـ«بورنو السياسة».
أول من أمس، أعلنت «إم. تي. في» أنّها «مع لبنان، البارحة واليوم وغداً». نشرت فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يصبو إلى الاستفتاء الشعبيّ، طرحت فيه سؤالاً: «هناك فريق يريد السلام والازدهار والإنماء، وهناك فريق يريد الحروب دائماً. أنتم مع أي فريق؟» وثمّ أجابت بنفسها. عودٌ على بدء: ثمة «نحن» و«هم» والأجواء ساخنة. ثمة من يشهِر موقفه، ويتباهى به، ويريد مناكفة، بل القتال، مع كل من لا يتبنى هذا الموقف. «مع أي فريق أنتم؟» خريطة المشهَد مرسومة إذاً: نحن إزاء تحدٍّ: هناك طرفان ضد بعضهما، ووحدها حلبة المصارعة تنهي القضية العالقة.
دائماً وأبداً: أنتَ مع من وضد من؟ السياسة هنا «امتدادٌ للحرب بوسائل أخرى» كما قلَب فوكو جملة كلازوفيتش «الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى» رأساً على عقب. تصبو المعادلة مع «المر تي. في»: الإعلام هو امتدادٌ للحرب بوسائلٍ أخرى. سبَق للشيخ نعيم قاسم أن صرّح في آخر خطاب له خلال فترة عدوان أيلول، أنّ «حزب الله» سيكون أوّل الحاضرين في مجلس النواب لانتخاب رئيس. الأمر الذي حصل. وانتُخب الحزب الرئيس الذي دائماً ما روّجت له «المرّ. تي. في». لكن القناة لا تزال مصرّة على رأيها بأنّ هناك من «لا يريد الجيش بل يريد بدلاً من ذلك فريقاً من طائفة واحدة». يقصدون «حزب الله» الذي انتخب جوزيف عون، وحيث يكيل، أمينه العام، الثناء على الجيش في كلِّ خطابٍ يتلوه. ماذا بوسع المرء أن يقول؟ ماذا يبقى من اللغة في هكذا سياق؟
وقع في الشهر الماضي إشكال في منطقة الأشرفية بين «جنود الرب» التابعين لأنطون الصحناوي، صديق جهاد أو جياد المر، وبين «القوات اللبنانيّة» ووصل إلى حدّ إطلاق النار. راح ضحيّة هذا الإشكال مسؤولٌ سياسيٌّ في «القوات». لكن ورد في الفيديو أنّ «ثمّة فريقاً يطالب بتطبيق القانون، بينما هناك فريق آخر يتسبّب في موت الناس بسبب الرصاص العشوائي». كيف بوسع المرء في حال أراد أن يجيب عن سؤال «ماذا يريد؟ أنت مع أيِّ فريق؟» من دون لعثمة؟ «المرّ. تي. في» تريد لبنان «القانون» في حين أنّ الدعاوى على جهاد المر، أو جياد، متراصّةٌ فوق بعضها، وحيث كلما حضر الكلام عن قوانين التدقيق الجنائي، برزت حلبة المصارعة في استوديوهات المرّ وجميع الحاضرين هناك، بمن فيهم «الكاميرامان»، يهشّمون غادة عون.
لكن «المرّ. تي. في» مع لبنان «وبَس». هكذا أفادوا في الفيديو. هذه الـ«بس» لهي توكيدٌ عنيف. إنهم مع «لبنان وبس» ونقطة على السطر. إنها جملةٌ تشبه التصريح الجازم الذي يوجهه المصارع إلى منافسهِ قبل دخول حلبة المصارعة. كلّ شيءٍ عنيفٌ هنا، بدءاً من «حب» لبنان على الطريقة الانعزالية وصولاً إلى استباحة «الآخر» وانتهاكه. إنهم مع «لبنان وبس» وليس مع فريق «بتموّلو إيران، وبتسلحو إيران، وبتؤمرو إيران». «إيران تؤمر» أي إيران تأمر، فالفيديو مكتوب بالعامية اللبنانية. إنه لبنان التي تحبّه القناة «وحده بَس»، وتحكي لغته، ولا حبّ يعلو على حبه لا للمملكة العربية السعودية، ولا للولايات المتحدة الأميركية التي تزوّد القناة بشهادات... حسن سلوك.
هناك فريق «بتموّلو إيران، وبتسلحو إيران، وبتؤمرو إيران» إذاً و«إم. تي. في» ضد هذا الفريق. عندما نقرأ عن العنف الذي يشكّل العنيف، نخلص إلى أنّ مصدره يعود عموماً، إلى أفعال الأمر. فمن يتلقّى الأوامر، وينصاع لها، يخطِئ عادةً في التعبير، مثلما يفرط كثيراً في الإسقاط. أليس كلّ ما رمته «المرّ. تي. في» على الفريق «الآخر» في ذاك الفيديو، حاضرٌ فيها؟ ليست هذه التورية أصلاً سوى واحدة من «الوسائل الأخرى» للحرب.