الثبات ـ دولي
أُريدَ للأحداث في سوريا أن تؤدي في الأساس إلى القضاء على محور المقاومة، لكن الواقع يقول إنها أعادت فرز المحاور في المنطقة، مع حصيلة مؤقتة هي أن إسرائيل كانت الرابح الأكبر منها. وإذ حرص الحكام الجدد في دمشق، على الابتعاد عن أي صراع مع العدو، على أساس أن سوريا لا تتحمّل حروباً، يتضح من الرهانات التي لا يخفيها هؤلاء أن ثمة في سوريا من هو سعيد بالضربات التي تلقاها محور المقاومة على يد إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة. ويعترف هؤلاء بأنه لولا تلك الضربات لما أمكنهم الإطاحة بحكم بشار الأسد، في حين تبدو هذه السردية محاكة خصيصاً لإبعاد المواطن السوري العادي عن العداء لإسرائيل، بعد وضعه بين خيارين هما الأسد والعدو، وحذف الخيار الثالث المتمثل بمعارضة الاثنين معاً، من القائمة المعروضة أمامه.
لكن الوضع في سوريا أكثر تعقيداً من أن يتم حصره بمسارات من النوع المذكور. فالحكّام الجدد يدركون تماماً أن ماضيهم وحده يجعل لهم أعداء طبيعيين في المحيط والعالم، وخاصة في الخليج الذي يبدو قسم من دوله متوجساً من ترسيخ حكم سلفي - إخواني في دمشق. ومن هنا، يمكن فهم كيفية إعادة فرز المحاور، ويمكن أيضاً فهم رسائل الطمأنة التي يبعث بها هؤلاء الحكّام في كل الاتجاهات؛ ذلك أنهم بحاجة إلى مساعدات كبيرة، وإلا سيواجهون سريعاً تحدي تأمين الحاجات الأساسية للسوريين، باعتبار أن الراعي الأساسي، التركي، يأخذ ولا يعطي، ولن يكون مستعداً لدفع فلس أحمر لسوريا، هذا إذا كانت في جيبه فلوس أصلاً.
وإذ يبدو تعامل معظم الدول المتأثرة بالأحداث في سوريا، حذراً بدوره، فإن دولاً أخرى تظهر وقد أخذت قرارها بالتعامل مع الحكم الجديد باعتباره تهديداً كبيراً، ومن بين أبرزها مصر والإمارات وإيران، وإن كان من غير الممكن اصطفاف الدول الثلاث معاً في جبهة واحدة ضده. ومع أن الإدارة السورية الجديدة حقّقت خرقاً أولياً عبر الانفتاح السعودي عليها، أقله من حيث المسارعة إلى إرسال مساعدات إغاثية بسقف مفتوح يعين تلك الإدارة على تدبير أوضاعها الداخلية، فإن الرياض لم تحسم أمرها بعد، ولن تفعل قبل أن تتأكد من أن الحكم الجديد في دمشق لن يكون له تأثير على الداخل السعودي، وهو ما يتطلّب وقتاً حتى يتبين ما إذا كان ذلك الحكم سوف يتمكّن، إن أراد، من الخروج من جلده وتلبية دفتر الشروط السعودي للاستمرار في تقديم الدعم. ورغم ما تقدم، تكفي للقول إن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ربما لا يكون قد اتخذ خياراً نهائياً بعد، استعادة بسيطة لرهاناته السابقة، والتي سرعان ما كان يتبين له أنها غير صائبة ويضطر إلى التراجع عنها. حصل هذا في أكثر من محطة مهمة، منذ توليه قيادة المملكة فعلياً عام 2017، من الحرب على اليمن، إلى حصار قطر إلى غيرهما.
غلبة التوجّس في تعامل المحيط مع الأحداث السورية
مرة واحدة، استطاع ابن سلمان أن يدفع خصمه إلى التراجع، وذلك أثناء الخلاف الكبير مع تركيا، بعد اغتيال جمال خاشقجي في إسطنبول عام 2018، حين اضطر الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى طرق أبواب كثيرة للتوسط له لدى الأول بعدما كان قد حاول استخدام قضية خاشقجي للإضرار به. قد تكون ثمة نقطة التقاء بين الرجلين اليوم في محاولة وراثة تركة إيران في سوريا، والاستفادة من موقعها الحساس للتأثير في ميادين أخرى، منها لبنان وفلسطين والأردن والعراق. لكن هذا مرهون بطواعية النظام الجديد في دمشق للطرفين، ومدى قدرته على المواءمة بين متطلبات العلاقة معهما؛ فإذا لم يتمكّن من القيام بهذه المواءمة، وتعين عليه بالتالي الاختيار بينهما، فسينحاز إلى تركيا باعتبارها الأكثر تأثيراً عليه. وإذا كان التاريخ يصلح مقياساً، فإن العلاقات بين تركيا والسعودية هي علاقات صراعية بالضرورة، حين يتعلق الأمر بالبحث عن النفوذ. والتاريخ الممتد لمئات السنين يشهد على الصراعات بين أسرة آل سعود وحكام تركيا.
وفي كل الأحوال، صارت سوريا بدءاً من لحظة دخول المعارضة دمشق، ساحة صراع متعدّد الأوجه على المستوى الإقليمي، بعد أن انحدر الصراع من مستواه العالمي، بتراجع روسيا وضآلة اهتمام أميركا وانسحاب إيران. فسوريا بحاجة ماسة إلى مساعدات خارجية لا يمكنها العيش من دونها، وتلك لا تُعطى مجاناً، فضلاً عن إمكانية الدخول على الخط من جانب جماعات سورية كانت قد ارتبطت بالولاء بدول مختلفة خلال سنيّ الحرب، وهي كثيرة ومتنوعة سياسياً وطائفياً وعرقياً وحتى داخل المكوّن الواحد، ولا سيما المكون الأساسي.
وانطلاقاً مما تقدّم، لا تبدو الصورة التي رست عليها التطورات في سوريا نهائية، بل ما زالت الأمور في بدايتها. ومن الآن فصاعداً، سيكون حكّام دمشق الجدد أقل تأثيراً في المسار الذي تسلكه البلاد، مع تكالب المتكالبين على حجز حصصهم فيها. والوفود الأجنبية التي تحضر إلى دمشق من كل حدب وصوب، لا مهمة لها سوى ذلك. كما أن الصراعات الداخلية الناشئة أو التي ستنشأ، توفّر أرضية خصبة لعملية التناتش الجارية.