الثبات ـ منوعات
ينحدر لويجي مانجيوني البالغ 26 عاماً من عائلة ثرية في بالتيمور أكبر مدن ولاية ميريلاند الأميركية، وهو المتفوق في دراسته في إحدى جامعات النخبة. لكنه واجه معاناة شخصية بدأت بإصابة في ظهره عام 2023. تلك الإصابة قادته إلى مواجهة طويلة مع شركات التأمين الصحي، التي تأخرت في الموافقة على علاجه ورفضت تعويضه بشكل كافٍ. زرعت هذه التجربة الشخصية داخله شعوراً بالظلم والإحباط من نظام يرى الناس مجرد أرقام لا أكثر، لتتحوّل بعدها إلى حادثة خطيرة على الصعيدين السياسي والاجتماعي في بلاد الشركات الكبرى. علماً أنّ لا علاقة لمأساته مع شركة التأمين التي يشتبه أنه قتل مديرها. في حقيبته التي عُثر عليها بعد خمسة أيام من البحث والقبض عليه، وُجدت مذكرات كتب فيها: «لا يمكن أن يستمر هذا النظام في سحق الضعفاء بلا حساب. كيف يمكننا أن نواجه هذه القوة الباردة التي تدير حياتنا كأرقام فقط؟». تضمّنت المذكرات أيضاً أمثلة محددة على تجاربه الشخصية، مثل رفض تعويضه عن علاجه بعد إصابة في ظهره، وتوصيفه لسياسات شركات التأمين بأنها «تجريد للإنسانية من جوهرها». كتب أيضاً عن قصص آخرين عانوا من النظام نفسه، مؤكداً أن «هذا ليس مجرد ظلم فردي، بل نظام بني على استغلال المعاناة البشرية لتحقيق الأرباح». كلمات كتبها من ألم، لم تكن سوى انعكاس لعالم تُسيطر عليه الشركات الكبرى وتضع الربح فوق الإنسانية. النقاشات المستمرة على وسائل التواصل أكدت أن مانجيوني لم يكن حالة منفصلة، بل انعكاساً لغضب أعمق يعبر عنه الكثيرون تجاه النظام الاقتصادي الحالي.
كلّ شي في قصة مانجيوني يدور حول صراع الناس ضد الشركات. حتى أغلفة الرصاصات الثلاث التي وجدتها الشرطة، حملت كلمات «تأجيل» و«إنكار» و«خلع»، الكلمات نفسها التي ترددها شركات التأمين للناس بغية التنصل من دفع مستحقاتهم، والتي تؤدي وفقاً إلى الرصاصات إلى خلعهم عن عروشهم. حتى أن كتاباً بعنوان «تأجيل، إنكار، خلع» الذي ينتقد سياسات شركات التأمين شهد ارتفاعاً كبيراً في مبيعاته بعد الحادثة.
على السوشال ميديا، اجتاحت صور مانجيوني منصات التواصل الاجتماعي مثل إكس وإنستغرام. عناوين مثل «البطل الثوري» و«رمز المقاومة» وحتى «القديس» شاعت بين المستخدمين الذين رأوا فيه تجسيداً للغضب الشعبي تجاه النظام الصحي والاقتصادي. مقاطع الفيديو التي تُظهر المدير التنفيذي المقتول يغادر اجتماع المستثمرين قبل لحظات من اغتياله، أصبحت رموزاً لغضب الطبقة العاملة. بعض المنشورات قارنته بحركات شعبية أخرى، مثل «احتلوا وول ستريت»، ورأى بعضهم أن مانجيوني يمثل استمراراً رمزياً لهذه الاحتجاجات ضد هيمنة الشركات الكبرى.
واندلع نقاش واسع بين مؤيديه ومعارضيه. المدافعون عنه وصفوه بأنه ضحية أخرى لنظام يعاقب الأفراد بينما يحمي الشركات العملاقة، مشيرين إلى أنّ جريمته كانت «صرخة أخيرة لرفض الظلم». على الجانب الآخر، حذّر النقاد من تمجيد العنف كوسيلة للتغيير، معتبرين أنّ هذا النهج يعمّق الفوضى ويُضعف أي أمل في الإصلاح السلمي.
كما يبدو من التقارير الكثيرة حوله، لم يكن مانجيوني مجرد شاب غاضب؛ فقد أظهرت التحقيقات أنه خطط لجريمته بدقة. في دفتر ملاحظاته، وُجدت قوائم مفصلة حول كيفية تنفيذ العملية والهرب، تشمل تحديد الموقع الأنسب لإطلاق النار وتوقيت العملية بشكل يتزامن مع أكبر تجمع للمستثمرين. كما دوّن بدقة الأدوات التي سيحتاجها، مثل مسدس مصنوع عبر طابعة ثلاثية لضمان عدم تعقب السلاح.
تضمّنت الملاحظات أيضاً دراسات مستفيضة حول كيفية تجنب كاميرات المراقبة واستغلال الزحام في مانهاتن كغطاء للهروب. إلى جانب ذلك، كتب عن مفجّر الجامعات، تيد كازينسكي، المعروف بـ Unabomber، متأثراً بأسلوبه الذي برّر حملة التفجيرات القاتلة بأنها محاولة للحماية من هجمة التكنولوجيا والاستغلال. لكن بحسب تقرير لشبكة «سي. أن. أن»، اختار مانجيوني التخلي عن القنابل بعدما خلص في مذكراته إلى أنّها «تقتل الأبرياء وتثير فوضى غير مبررة»، بينما «الرصاص يوجه رسائل دقيقة». إصرار على الدقة والرمزية في التنفيذ في مشهدية ثورية وفلسفية، لم تكن مجرد انفعال طائش بل تخطيطاً يحمل دلالات واضحة.
في مذكراته، عبّر عن فلسفته قائلاً: «لا يمكننا أن نُغير هذا النظام فقط بالكلمات. نحن بحاجة إلى صدمة تُوقظهم من سباتهم وتُظهر لهم أنّ الناس لن يقفوا مكتوفي الأيدي بعد الآن».
بعد خمسة أيام من المطاردة، اعتقلته الشرطة في ولاية بنسلفانيا وهو يحمل هوية مزورة ووثيقة بعنوان «إعلان المسؤولية»، تضمنت انتقادات لجشع الشركات ودفاعاً عن دوافعه. أثناء اقتياده إلى المحكمة، صرخ أمام الحشد: «لقد حان الوقت لتغيير الواقع. لن أكون الأخير!»
الأدلة التي جمعتها الشرطة كانت دامغة: تطابقت بصماته مع تلك الموجودة على زجاجة مياه ومغلف شوكولا اشتراهما قبل الجريمة بنصف ساعة، إضافة إلى تطابق المسدس مع الرصاصات المستخدمة. لكنّ محاميه أصرّ على أنه سيطعن في الأدلة ويثبت براءة موكله.
قالت حاكمة نيويورك كاثي هوكول في مقابلة: «لا يمكننا أن نسمح بتحويل هذا العمل الوحشي إلى حركة رمزية. المدينة تحتاج إلى أمان، وليس فوضى». ومع ذلك، استمرت النقاشات حول مدى تأثير هذه الحادثة في النظام الاقتصادي والصحي.
من المحتمل أن تشجع الحادثة على نقاش أوسع حول مساءلة الشركات الكبرى وتخفيف سطوتها على حياة الأفراد. في الوقت نفسه، قد تزيد هذه الحادثة من توتر العلاقة بين الناس. لكن السؤال الأساسي هو: هل ستلهم هذه الواقعة حركات احتجاج سلمية للمطالبة بإصلاحات حقيقية، أم أنها ستُستخدم كذريعة لتعزيز القبضة الأمنية؟
بمعزل عمّا ستؤول إليه الأمور، ستبقى الحادثة علامة فارقة ودليلاً على أن الغضب الشعبي يمكن أن يجد طريقه إلى العدالة بنظر البعض، حتى لو أتى من فوّهة المسدس.