الثبات ـ عربي
ظل السؤال مفتوحا حول خلفية القرار الذي دعمته تركيا بفتح جبهات القتال ضد الجيش السوري في المناطق الشمالية، والتي جاءت بعد يومين على تهديدات رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو القيادة السورية على خلفية دعمها قوى المقاومة وخصوصا في لبنان.
واذا كان الاتراك،/ يتحدثون عن «مبادرة مستقلة» قامت بها فصائل معارضة لحكومة دمشق، فان كل التقارير تشير الى ان الهجوم الذي يستهدف السيطرة على حلب، جاء ترجمة لتهديدات ضمنية بعثت بها تركيا، على خلفية رفض الرئيس بشار الاسد التحاور مع انقرة قبل اعلان انسحباها من الاراضي التي تحتلها في سوريا. فيما عد الهجوم، رسالة يبدو ان للولايات المتحدة الاميركية علاقة بها، في سياق الحرب المفتوحة ايضا ضد الوجود الروسي والايراني في سوريا. خصوصا بعد تكاثر المعلومات حول مشاركة قوات خاصة من اوكرانيا فصائل المسلحين في عملياتها ضد الجيش السوري، والذي قالت مصادر غربية ان اوكرانيا تبرر دورها بوجود تعاون روسي - ايراني ضدها في المعارك الدائرة على اراضيها
أمس، تابعت الفصائل المسلحة هجومها العنيف على مواقع سيطرة الجيش السوري في ريف حلب الغربي، وفي ريف إدلب، ضمن جولة تصعيد كبيرة في منطقة «خفض التصعيد». وتمكّنت تلك الفصائل من السيطرة على مناطق عديدة لتصل إلى تخوم مدينة حلب، وطريق حلب – دمشق الدولي «M5»، في وقت استقدم فيه الجيش السوري تعزيزات كبيرة لتأمين المدينة وبدء عملية وصفتها مصادر ميدانية بأنها ستكون «واسعة».
واستخدم المسلحون في هجومهم، الذي بدأ أول أمس وتشارك فيه فصائل «المعارضة» تحت قيادة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة – فرع تنظيم القاعدة السابق في سوريا)، أسلحة ثقيلة ومتوسطة، بالإضافة إلى السيارات المفخّخة، وطائرات مُسيّرة حديثة، بعضها للاستطلاع، وبعضها الآخر انتحاري. وقابل الجيش السوري الهجوم بانسحاب من بعض المناطق وتأمين المواقع الخلفية، الأمر الذي يفسّر التقدم السريع للمسلحين على بعض المحاور، بما فيها الطريق الدولي، والذي قامت السلطات بوقف الحركة عليه ريثما يتم تأمينه، علماً أن ثمة طرقاً أخرى تربط حلب بالعاصمة، أبرزها طريق «خناصر» الذي كان يُستعمل قبل استعادة الجيش السوري الطريق الدولي عام 2020.
وفي السياق، تؤكد مصادر ميدانية أن حجم التعزيزات العسكرية كبير جداً، موضحة، في حديثها إلى «الأخبار»، أن تلك التعزيزات «تضم تشكيلات مختلفة من الجيش السوري، والفصائل المؤازرة له، قامت بشكل مبدئي بتعزيز تحصينات مدينة حلب، وبدء عملية معاكسة، قد تعيد تشكيل خريطة السيطرة التي ظلت مستقرة منذ عام 2020 قبل أن تخرقها الفصائل». ويأتي الخرق الأحدث وسط قبول تركي غير خفي بما يجري، ضمن محاولات زيادة الضغوط على الحكومة السورية، والتي رفضت مسار «التطبيع» مع أنقرة وفق ما تشتهيه الأخيرة، كونه يعطي، بشكل أو بآخر، شرعية للوجود العسكري التركي غير الشرعي.
ينذر الوضع الراهن بمواجهات عسكرية سورية – تركية مشابهة لتلك التي شهدها ريف إدلب
وفي أولى خطوات العملية العسكرية المضادة، تمكن الجيش السوري، في وقت متأخر من مساء أمس، من استعادة بلدة خان العسل الاستراتيجية على الطريق الدولي. كما تمت السيطرة نارياً على عدد من القرى بينها كفر داعل وكفر ناها، وسط حملة قصف عنيف مكثفة، جوية ومدفعية، ضمن استراتيجية عمل متزامن على محاور عدة. ومن شأن ذلك أن يسرّع استعادة المناطق من جهة، ويرفع عدد قتلى المسلحين، والذين أعلن «مركز المصالحة الروسي» في حميميم أن عددهم بلغ نحو 400 مسلح في يوم واحد، من جهة أخرى.
وفي وقت التزمت فيه تركيا الصمت، تناقلت وسائل إعلام عديدة تصريحات لمصادر تركية، لم تسمّها، تبرر هجوم المسلحين باعتبار أنه «لا يشكل» أي خرق لاتفاقية «خفض التصعيد» الموقّعة بين روسيا وتركيا عام 2019. وتأتي هذه التبريرات في محاولة للقفز على البروتوكولات المتمّمة، والتي تم توقيعها عام 2020 عندما بسط الجيش السوري السيطرة على ريف حلب الغربي، وقام بتأمين طريق حلب – دمشق، وكان يسير نحو فتح طريق حلب – اللاذقية (M4) قبل أن يسافر الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى موسكو ويوقّع على تلك البروتوكولات، والتي تعهّد خلالها بالحفاظ على الهدوء على خطوط التماس، وفتح طريق «M4» بعد إبعاد المسلحين مسافة لا تقل عن 6 كيلومترات عن جانبيه، في المنطقة التي يسيطر عليها المسلحون من الطريق.
أيضاً، يكشف التعاون بين تشكيلات الفصائل «المعارضة» المختلفة في الهجوم، عن دور تركي بارز، في ظل التناحر الكبير بين هذه المجموعات، وكذلك يفتح الباب أمام أسئلة عديدة من ناحية توقيته، إذ جاء بالتزامن مع إعلان إسرائيل وقف إطلاق النار في لبنان، علماً أن الفصائل حاولت شنه قبل نحو ثلاثة أشهر قبل أن تعلن تركيا، حينها، رفضها إياه في ظل محاولاتها فتح الأبواب المغلقة مع دمشق. غير أن هذه الجهود يبدو أنها وصلت إلى طريق مسدود، خصوصاً بعد السجال الذي دار بين أنقرة وموسكو على هامش لقاء «أستانا» في نسخته الـ22، قبل نحو أسبوعين، عندما اتهمت روسيا تركيا بأنها تمارس سلوكاً احتلالياً من خلال رفضها الانسحاب من سوريا.
وفيما كانت التفاهمات السياسية بين أنقرة وموسكو قد رسمت معالم هدوء نسبي على جبهات القتال طيلة الأعوام الأربعة الماضية، يفتح هجوم المسلحين الجديد، الباب على مصراعيه أمام تحولات جذرية في خريطة السيطرة، علماً أن فصائل «جهادية» غير سورية شاركت فيه، وقامت بعضها بتوثيق مشاركتها عبر نشر تسجيلات مصوّرة. والجدير ذكره، هنا، أن المسلحين الذين نفّذوا الهجوم بمباركة تركية، استعملوا أسلحة ومعدات أوكرانية، بعد تواصل تم الكشف عن بعض ملامحه من قبل وسائل إعلام تركية في وقت سابق، بين الاستخبارات الأوكرانية و«هيئة تحرير الشام» المصنّفة على لوائح الإرهاب. وجاء هذا التعاون في سياق محاولة كييف استهداف ما تعتبره «مصالح روسية» في مناطق بعيدة عن الساحة الأوكرانية، عبر تحالفات أبرمتها مع جماعات مصنّفة على لوائح الإرهاب، من بينها فصائل في الساحل الأفريقي، وأخيراً في سوريا. ولربما يدفع ذلك روسيا بشكل أكبر نحو إنهاء صيغة «خفض التصعيد» التي حاولت الحفاظ عليها، بالرغم من عدم التزام تركيا بأي من تعهداتها.
وفي هذا الوقت، تستمر روسيا في شن غارات متقطعة على بعض محاور القتال لاستهداف طرق إمداد المسلحين، في حين يتابع الجيش السوري تعزيز صفوفه بانتظار «ردة الفعل». وفي ذلك الإطار، ترى المصادر الميدانية أن وصول القائد في الجيش السوري، سهيل الحسن، الملقب بـ«النمر» إلى حلب، مؤشرٌ إضافي إلى التغييرات الجذرية التي ستشهدها خريطة السيطرة، خصوصاً أنه قاد عملية فك الحصار عن مدينة حلب عام 2016، وساهم بشكل كبير في رسم معالم خريطة «خفض التصعيد» وملحقاتها. وينذر ذلك بمواجهات عسكرية سورية – تركية، مشابهة لتلك التي شهدها ريف إدلب عام 2020، والتي تم خلالها استهداف قوات تركية كانت تقوم بمؤازرة مسلحي «هيئة تحرير الشام»، في ظل إصرار أنقرة على توسيع دائرة سيطرة مسلحيها لزيادة الضغوط على دمشق.