الثبات ـ لبنان
في خطابه الأول بعد «طوفان الأقصى»، قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إن جبهة الإسناد من لبنان تعمل وفق محدّدين، أحدهما مرتبط بحجم اعتداءات العدو، والثاني يتعلق بالدعم الواجب تقديمه لمنع كسر المقاومة في غزة. ولم يتأخر زعيم «أنصار الله» السيد عبد الملك الحوثي في الإعلان عن أن انخراط اليمن في المعركة هدفه وقف العدوان ورفع الحصار عن غزة. وحرص الطرفان، في كل البيانات التي صدرت لاحقاً عن الإعلام الحربي لكل منهما، على إيراد عبارات مفتاحية: إسناد غزة، ودعم مقاومتها، والسعي لوقف العدوان ورفع الحصار.لاحقاً، طوّر نصرالله والحوثي، في خطب عدة، الموقف ربطاً بأحداث كثيرة، أهمها أن التنسيق بين قوى محور المقاومة أخذ شكلاً مختلفاً واستقرّ على آليات تشمل كل الجبهات، بما في ذلك جبهة غزة نفسها. ولن يتأخر الوقت، حتى يُكشف عن بعض التنسيق العملاني اليومي، سياسياً وميدانياً، بين أطراف المحور، من المركز في إيران مروراً بالعراق وسوريا واليمن ولبنان وصولاً إلى غزة وبقية فلسطين.
وعلى مدى الأشهر التسعة الماضية، قدّمت المقاومة في غزة الدليل تلو الآخر على صمودها وصبرها وفعاليتها، وكانت ترفد الحلفاء بالمعطيات الكافية حول أحوالها، وصولاً إلى اللحظة التي أيقن فيها قادة المحور أن فكرة سحق المقاومة في غزة باتت خلف الجميع. وانتقل التركيز والبحث إلى آلية الإسناد التي تفيد المقاومة في غزة من جانبين، الأول يتعلق باستنزاف العدو ودفعه إلى وقف الحرب، والثاني يخص موقع المقاومة في المفاوضات الجارية حول وقف الحرب، خصوصاً أن الضغوط السياسية التي تُمارس على المقاومة كبيرة جداً، ويشارك فيها فلسطينيون وعرب إلى جانب العدوّين الأميركي والإسرائيلي.
وأظهرت وقائع الأسابيع الأخيرة أن حكومة بنيامين نتنياهو لا تنوي السير في صفقة تنهي الحرب، وقد جاهر رئيسها برفضه تسوية قال إنها تحقق أهداف حماس. ثم دخل في مناورة جديدة باتت أكثر ارتباطاً بالحدث الانتخابي الأميركي، ولم يعد أركان حكومته يخفون رهانهم على سقوط إدارة جو بايدن، ويعوّلون على انتصار دونالد ترامب. وهم يتصرفون الآن على قاعدة الاستمرار في الحرب حتى موعد هذه الانتخابات، ووصل الأمر بوزير الأمن في حكومة العدو إيتمار بن غفير إلى البوح بالسر الكبير، عندما اعتبر أن الموافقة على الصفقة المعروضة تمثّل طعنة في ظهر ترامب.
وإلى جانب السؤال الدائم، حول شكل الإسناد الأكثر إفادة لغزة ومقاومتها، أضيفت إلى جدول أعمال محور المقاومة البنود ذات البعد الإقليمي والدولي، وكيفية التعامل أيضاً مع الحدث الأميركي. كما يتصرف أركان المحور على قاعدة أنه ما من طائل لانتظار أي تغيير في مواقف النظام الرسمي العربي، إذ تبدي السعودية والإمارات العربية استعداداً لتولي مهمة الانتقام من اليمن، بينما يتعاون الأردن مع سلطة رام الله وقواها الأمنية في خطط قمع المقاومة في الضفة الغربية، ويتورط الجميع، برعاية مصر، في البحث عن سلطة بديلة عن حماس في غزة، رغم علم هؤلاء جميعاً أنه دون تحقيق ذلك، فتنة أهلية فلسطينية - فلسطينية، يريدها العدو أن تكون السطر الأول في برنامج «اليوم التالي».
كان حزب الله و«أنصار الله» في غاية الصراحة عندما قالا منذ الأيام الأولى للحرب إن كسر المقاومة في غزة ممنوع
كل ذلك، فرض إعادة النظر في البرامج الميدانية لقوى المقاومة، ما يفرض تغييرات يمكن إنجازها وفق ترتيب لا يتناقض مع خصوصية كل طرف في محور المقاومة، من دون الذهاب حكماً نحو الحرب الواسعة. وقد باشرت المقاومة في غزة عملية الانتقال من مرحلة التصدي لعمليات التوغل التي تقوم بها قوات الاحتلال، إلى مرحلة الإغارة على مراكز تجمع هذه القوات في كل مناطق القطاع. وقدّمت في الأسبوعين الماضيين نماذجَ عن هذا النمط الجديد، عكست استمرار القدرة على الاستطلاع، ونصب الكمائن، بما في ذلك زرع العبوات، والقيام بهجمات دقيقة من خلال مجموعات فدائية أو من خلال القصف بأنواع مختلفة من المقذوفات. إضافة إلى خطوة لها بعدها الرمزي في المعركة، تتعلق بمواصلة إطلاق رشقات صاروخية باتجاه مستوطنات الغلاف.
في الجبهة الشرقية، كان العراقيون ينخرطون في برنامج تعاون خاص مع «أنصار الله» لتنفيذ عمليات استهداف لمواقع حيوية للعدو في أكثر من نقطة في الكيان، من حيفا في الشمال إلى إيلات في أقصى الجنوب، والبعث برسائل بأن استهداف القواعد الأميركية ممكن في أي لحظة. فيما جاءت عملية «أنصار الله» النوعية بقصف تل أبيب فجر أمس لتعطي الإشارة إلى أنها ليست عشوائية، ولا «فلتة شوط»، بل كانت مُعدّة وفق حسابات دقيقة، بما في ذلك كيفية الاختيار من بنك الأهداف الوفير لدى محور المقاومة. وتكفي الإشارة إلى أن ما عرضه حزب الله من معطيات حول المواقع الحساسة في كيان العدو، يمثل «غلة بديهية» في أوراق وحدات المقاومة، حيث لا وجود لمشكلة اسمها أهداف في الكيان.
على صعيد لبنان، قد يكون في كيان العدو من ظل مشكّكاً في ما قصده الأمين العام لحزب الله في خطابه الأخير، فجاء قصف المستوطنات الجديدة، كرسالة أولى، مفادها، بكل بساطة، أن المقاومة في لبنان، عندما تعلن استعدادها لضرب مراكز مدنية جديدة، فهي تدرك أن احتمالات رد العدو بضربات أكبر، احتمالات معقولة وجدية. وبالتالي، فقد أعدّت المقاومة نفسها لرد مضاد يستهدف مراكز جديدة، وبقوة أكبر، وإذا ما استدعى القصف الجديد رداً إسرائيلياً جديداً، فإن المقاومة في لبنان تقول، مسبقاً، إنها مستعدة للذهاب بعيداً في هذه المبارزة وصولاً إلى الحرب الشاملة.
ما بين قصف تل أبيب وقصف المستعمرات الجديدة في الشمال خيط سميك جداً يمتد إلى غزة، حيث يعرف العدو أولاً، ومقاومة غزة ثانياً، أن محور المقاومة، يتحمل مسؤوليته، ليس في إسناد غزة فحسب، بل في القيام بما هو أكثر لخدمة الهدف المركزي الأول، وهو وقف العدوان بكل أشكاله. وقد شرحت المقاومة، بوضوح تام، أن وقف الحرب يصبح سارياً بعد إعلان يصدر عن المقاومة في فلسطين حصراً.
أمس، دخلت معركة «طوفان الأقصى» طوراً جديداً. ووفق الحسابات الميدانية البسيطة، فإن ما حصل في حالتَيْ تل أبيب والمستوطنات الجديدة يحمل إشارة إلى قدرة قوى المقاومة على القيام بعمليات من النوع الذي لا يمكن للعدو منعه. ويفترض بالجميع أن يتصرف على أساس أن ما لم يحقّقه العدو بعد تسعة أشهر من القتل والتدمير، لن يحققه في عمليات موضعية وحرب تجويع قاسية تهدف إلى استسلام أبناء غزة. أما أصدقاء المقاومة ممن «يعتقدون» بأنه بات من الضروري إعداد برنامج سياسي لليوم التالي، فعليهم أن يغادروا مربعهم الحالي إلى مربع شديد الوضوح، يتطلب برنامجاً سياسياً لدعم خيار المقاومة. وكل حديث حول كلفة المقاومة، هو فعل يصبّ في مصلحة العدو، ولن يفيد في إنعاش كل أوهام التفاوض والتصالح والحلول السياسية... فما بقي من عمر الكيان أقل بكثير مما يتصوّره كثيرون.