الثبات ـ لبنان
كان مُبصراً فبات بصيراً.. هذا هو حال "الشهيد الجريح اللبناني الحيّ" حسين المقداد.. الذي نتناول مسيرته النضالية اليوم، مع تحصيله شهاد الدكتوراه، وفي ظل مساندة لبنان الهامة للشعب الفلسطيني في غزة ودعماً لمقاومته الباسلة.
نحن أمام قصة نضال مثيرة في سبيل قضية وعقيدة وأمّة، خطّها شاب لبنان من بيروت إلى لندن فالقدس تحت اسم جهادي هو "وائل سلامة"!
زرع أعضاء جسده في القدس!
"نسأل الله تعالى أن يتحقّق حلم الشهداء والجرحى على يديه، وهو تحرير فلسطين المحتلّة من أيدي الأعداء، فقد زرعت بعض أعضاء جسدي هناك"، هذا ما يكرره ابن بلدة "لاسا" في منطقة جبيل (جبل لبنان).
أراد الجريح المقداد أن يجترح من جرحه مأثرةً فقال: "إنّ الإنسان عندما يصاب ويستشهد تنتهي مهامّه، أمّا الجريح فهو مع كل ألم ومعاناة من جراحه شهيد حيّ، لكن بالصبر ينال أجر الشهادة، فجراحه هي شهادة متجدّدة.
"الميادين نت" واكب سلسلة نجاحات منقطعة النظير منذ أولى هنيهات عودته من الأراضي الفلسطينية المحتلة، فالشاب الحائز على إجازة من الجامعة اللبنانية الأميركية قبيل توجهه لتنفيذ مهمته، عززّها بتحصيل العلوم والشهادات، وكان آخرها منذ أيام عبر تحصيله شهادة دكتوراه في إدارة الأعمال من جامعة "الجنان" اللبنانية.
اقرأ أيضاً: "الميادين نت" يحاور عائلة " الأسير إكس": معادلة الجيش والشعب والمقاومة ضمانتنا
صور قادة في محور المقاومة، على مدخل بيته، تشي لنا بالكثير من دون حاجة إلى أن ننبس ببنت شفة!
"الحاج رضوان" حاضر..!
في منزل المقداد نتسمّر أمام صورة القائد الشهيد عماد مغنية التي تتصدّر الصالون الرئيسي، في زاوية أخرى لوحات مرسومة تجسد المقداد قبل وبعد العملية.
وللحاج رضوان "الذي أخاف الموت" يوماً وأستشهد لكنه لم يمت.. يهجع المقداد كل لحظة وهنيهة، فـ" مغنية كلّفني عام 1996 بمهمة استشهادية داخل فلسطين المحتلة ضد قياديين في جيش الاحتلال"، يقول المقداد للميادين نت.
الشاب اللبناني المتوقد حماسةً الذي دخل إلى فلسطين بجواز سفر بريطاني لتنفيذ العملية الأمنية النوعية، يكمل موضحاً: "أهلاً بكم في مطار "بن غوريون"، عبارة لفتتني حين لمست قدماي أرض تل أبيب. كانت أوّل ما وقعت عليه عيناي. توجّهت نحو موظّفة الجمارك لتختم جواز سفري، صعقها ردّي على سؤالها عن سبب مجيئي إلى تل أبيب بأن "لا شأن لكِ بذلك، وأنّ الأمر لا يعنيكِ"!
وجدت هدفي.. ولكن؟
كان الهدف تصفية قائدٍ عسكريّ في مهمّة أمنيّة عسكريّة خاصة. بعد تجوال دام 5 أيّام فيها، قسّمت خلالها الخرائط إلى مربّعات، وتفقّدت طرقاتها واستطلعت كلّ شبرٍ فيها، إلّا أنّني لم أجد ضالّتي، بعدها انتقلت إلى مدينة القدس، وهناك بعد مضيّ 4 أيّامٍ تمكنت من تحديد هدفي الذي أصبو إليه".
"كان تحديد الزمان والمكان بيدي، وفجأة بدأ عدوان نيسان/ أبريل 1996 الإسرائيلي (عناقيد الغضب) على لبنان، فأتاني إيعاز بتنفيذ المهمة والتفجير، قلت لهم مافي مشكلة أنا جاهز،وأتحين الفرصة من غرفتي في الفندق، حيث أعددت القنبلة، لكن للأسف وبعد حدوث خلل تقني طارىء انفجرت العبوة بي داخل الغرفةّ".
اقرأ أيضاً: بالتفجير الفني.. مقاوم لبناني جريح يجسّد لوحات معبّرة
بعد صمت مهيب لثوانٍ قليلة، يتابع بصوته الخافت المتحشرج "انا لم أشعر بشيء بل رحت في غيبوبة مباشرة ولمدة شهر تقريباً، بعدها أفقت في المستشفى فاقداً بصري وحاستيّ التذوق والشم، وبُترت قدميّ فوق الركبة وأيضاً، بُترت اليد اليمنى و3 أصابع من اليد اليسرى.
أفقت والمحقق فوق رأسي: خذوا أصبعي!
" أفقت والمحقق فوق راسي"، فقال لي "أنت كنزٌ من ذهب نزل علينا من السماء والطيّار "رون أراد" طالع بفضل أسرك"ّ!
والأنكى من ذلك، فهو لم يراعِ حالتي المزرية المخيفة، فأخذ يساومني على عيني، "عيني اليمين هيدي مقطبة كان ممكن في عملية سريعة أن استرجع النظر، قالوا لي: "إذا بتحكي عناوين نجري عملية لعينك، وبعدها تخبرنا بالتفاصيل".
حسين المقداد قبيل تنفيذ مهمته (صورة حصرية للميادين نت)
الإجابة صعقت المحقق حيث قلت له "بعد في عيني وفي أصبعي إذا بدكم ياهن خدوهم"! وطبعاً لم اعترف بأية معلومة، ورغم صعوبة وقساوة الإصابة لم أكن حزيناً، بل حمدت الله مفتخراً باصابتي رغم كل شيء".
ويضيف "لاحقاً، بداً "الجحيم" من خلال التحقيق معي ليلاً ونهاراً، بكافة الأساليب والطرق، بقيت سنة و3 اشهر مع الأسيرين مصطفى الديراني والشيخ عبد الكريم عبيد، من بعدها نقلوني إلى معتقل "ايرون" لمدة 5 أشهر انفرادي لوحدي.
هنا مورست عليّ ضغوط نفسية مع تعذيب جسدي ونفسي، تحقيقٌ وتعذيبٌ، حقّق معي 12 محقّقاً حول المهمّة التي جئت من أجلها، لكن دون جدوى، فقد عقدت العزم على عدم الاعتراف. نُقِلت بعدها إلى مشفى آخر، وبقيت وحيداً طيلة أشهر أعاني من التعذيب وقلّة النوم"، يكشف المقداد.
كنت "محضّر نفسي" للبقاء في السجن!
كانت فترة صعبة واستمرّت إلى أن حُرّرتُ في عمليّة تبادل للأسرى في 24 حزيران/ يونيو عام 1998م، مقابل أشلاء جنود العدوّ الذين قضوا في عمليّة أنصاريّة.
حسين المقداد في القدس (الصورة من الإعلام الإسرائيلي)
لكني كنت أروّض نفسي لتخطي حالتي الصحية والنفسية، وحتى عندما أخبرني المحقق أنني ساخرج من المعتقل لم افرح، كنت محضر نفسي للبقاء في السجن 20 و 30 سنة، وأنني لن اخرج منه إلا شهيداً"!
"جهاد" علمي و دكتوراه جديدة
استقبل الشهيد الحيّ استقبال الأبطال في وطنه لبنان، افتخر الأهل بمهمته، ورفعت بناته رؤوسهن عالياً بما قدّمه والدهن، وبدأت مرحلة الدأب الحثيث والعزم التليد على التحصيل العلمي.
صحيح أن الجراح المثخنة قد اخترقت الجروح في جسده، لكنّ روحه كانت تلهج مهيّأة للحياة والعطاء.
التحق الأسير المحرر بجامعة "آزاد" في لبنان وحصل على شهادة ماجستير في الفلسفة، وبعدها ماجستير آخر في الموارد البشريّة، ثمّ انتقل إلى جامعة " LIU" وحصل على شهادة الماجستير في اختصاص إدارة الأعمال عبر الكمبيوتر، وأجرى دورة كمبيوتر للمكفوفين ونجح فيها، وكان يحب أن يكمل الماستر بال Business Management لكن العراقيل اللوجستية المتعلقة بالبرامج حالت دون ذلك، وتسهيلاً للأمور اتفق مع "مؤسسة الجرحى" فجهّز مجموعة كتب طبعها على word، مقدماً الشكر في هذا المضمار للمؤسسة التي واكبته من البداية.
ومنذ أيام حصل على الدكتوراه في إدارة الأعمال من جامعة "الجنان" اللبنانية، كما شغل منذ عام 2012 منصب معاون مسؤول الجامعات الخاصّة في التعبئة التربويّة تطوّعاً.
واظب حسين على "التبليغ الجهادي" في المدارس والجامعات وغيرها، بالإضافة إلى أعمال لوجستية داخل "التعبئة"، وشارك في العديد من الندوات واللقاءات، وهو إلى ذلك، إنسانٌ مثقف لدرجة كبيرة، وباث للمعنويات والروحية العالية.
العطاء في طبعه!
وكم تعلو محياه الغبطة عند الحديث عن خدمة الناس: "طبعي بالأساس اجتماعي مع أنني كنت بشغلي الأمني معزول عن الناس، وبطبيعة عملي اليوم فأنا أتلقى اتصالات الناس وأحاول قضاء حوائجهم، فخدمتهم أهم وأشرف عبادة.
في جلستنا معه، نشعر وكأن بصيرة الرجل تطوقنا!
من الندوات التكريمية للشهيد الحي حسين المقداد
بصيرته وسعة مداركه جعلته يلمّ بكل شاردة وواردة، حتى ليخيل إلينا أنه يرانا، ويلفتنا تواصله مع عالمه عبر إصبعين فقط في يده اليمنى، أمسك بهما الفنجان لاحتساء القهوة معنا، وهو يكتب ويتواصل بهما..
يقول "فقدت 3 حواس البصر والشم والتذوق، حتى أنني في بعض الأحيان لا أعرف طعم الأكل الذي أتناوله، فاسترجع بالذاكرة بعض النكهات او الروائح، لكني تجاوزت هذه الأمور وأصبحت من الماضي وهي ليست عائقاً، كذلك بالنسبة للسمع، ففي بعض الأحيان لا أسمع جلّ الكلام الموجه إلي، أذني اليمين معطوبة تماماً واليسار بنسبة 60%".
حسين يعتني بالتعاون مع عائلته الصغيرة الحاضنة التي تضم ثلاثة بنات بأموره قدر المستطاع في حركته على الكرسيّ النقّال. وعلى الرغم من كل الوظائف الجسدية التي تعطّلت، أثبت هذا المجاهد أنّ الإرادة أقوى من المعضلات، فحاز بصبره وبصيرته ومثابرته على الشهادات العليا" .
النائب برو: نقاوم بالعقل كما السلاح
وفي هذا المضمار، كتب نائب بلاد جبيل النائب رائد برو، تحت #هاشتاغ ثقافة_الحياة، مهنئاً الجريح والاسير المحرر حسين المقداد، بتحصيله شهادة دكتوراه في إدارة الأعمال منذ أيام.
فقال "لأننا نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً، لأن عقولنا ترفض الجهل كما الظلم، لأننا نقاوم بالعقل كما السلاح، خرج اليوم الجريح والأسير المحرر، من بلاد الحرف الأوّل، من بلاد جبيل، كالطائر الفينيق اعتلى رماد دنياه إلى حيث الشمس، نال الحاج حسين المقداد شهادة الدكتوراه في إدارة الأعمال وأعطى بموجبها درساً في #ثقافة_الحياة".
و لـ "جريح القدس"، كما يسمى، قناعة أن ما يجري اليوم في غزة ولبنان وغيرها من جبهات الإسناد، مع ما يلاقيه من صدى عالمي، لهوَ أكبر دليل على ضعف العدو وقرب نهايته فهو "أوهن من بيت العنكبوت"، كما قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطاب التحرير من مدينة بنت جبيل عام 2000.
من يدري؟
لو قيّض للحاج حسين إعادة الزمن إلى الوراء، لعاد مجاهداً شهيداً إلى القدس، مهمة قد يحققها مجاهدو "حزب الله" يوماً ما.. ومن يدري فقد يكون الشهيد الحيّ حسين المقداد في عِداد من سينال شرف الدخول إلى الجليل وفلسطين في أحد الأيام.. وصدقت الآية الكريمة من سورة المعارج {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيبًاً} .
درع من الرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود
نغادر منزل الحاج المقداد، وهو يوصينا بصدق المقاوم المربي: "انتبهوا على ولادكم"، هم جيل الغد الذي سيحمل الرسالة والبوصلة الصحيحة، وسط ما نعيشه من أحداث.