الثبات ـ دولي
صباح ذلك اليوم، ظهرت فوق مدينة هيروشيما اليابانية، قاذفتا قنابل أمريكيتان من طراز "بي – 29"، وعلى متن إحداهما قنبلة "الطفل الصغير" النووية".
من ارتفاع 9 كيلو مترات، فتح تجويف أسفل القاذفة الأمريكية، وأسقطت القنبلة النووية بالمظلة الساعة 8:15، وحين وصلت إلى ارتفاع 600 متر من الأرض، وقع انفجار "وحشي"، وانبعث وميض هائل، وخرج الفطر النووي وامتد في السماء، فيما انتشر الخراب الرهيب على الأرض.
كانت المدينة حينها تعيش حياتها العادية بعد أن تم إبلاغ الأهالي بأن الخروج إلى الشوارع آمن، وحين انفجرت القنبلة النووية الأمريكية الأولى في التاريخ البشري، تبخر الآلاف من سكان هيروشيما على الفور من دون أن يتركوا أي أثر، فيما سيعلق في ذاكرة الناجين مشهد وميض هائل، يليه صوت لم تسمعه أذن إنسان من قبل.
سارعت قاذفتا القنابل بعد إلقاء الحمولة "النووية" إلى الابتعاد عن مركز الزلزال الرهيب، وراقب طاقم القاذفة التي أسقطت "الولد الصغير" ما فعلوه بهيروشيما.
كتب في سجله، أحد الطيارين ويدعى الكابتن روبرت لويس قائلا: "في البداية لم يكن أحد يعرف ما سيحدث. كان الوميض فظيعا.. لا شك في أن هذا هو أقوى انفجار شهده الإنسان على الإطلاق. يا إلهي، ماذا فعلنا!"، ثم قال في وقت لاحق في وصف المشهد: "كنا رأينا المدينة بوضوح قبل دقيقتين، الآن لم نر المدينة على الإطلاق".
شاهد يدعى غويتشي أوشيما، كان الوحيد الذي نجا ممن كان في دائرة نصف قطرها 100 ياردة من مركز الانفجار في هيروشيما، وصف بعد عشر سنوات ما رآه قائلا: "وميض مفاجئ، انفجار يتحدى الوصف، ثم غرق كل شيء في الظلام. حين عدت إلى الوعي، هيروشيما التي أعرفها كانت في حالة خراب".
الطيارون الأمريكيون بقيت عيونهم معلقة على الفطر النووي في الأفق، وكانت هيروشيما في الأسفل تحترق. ماتت جميع الكائنات الحية داخل دائرة نصف قطرها كيلومترين من موقع الانفجار على الفور، فيما لف النار والدخان والغبار المدينة طوال اليوم.
كان يعيش بالمدينة صباح ذلك اليوم 343 ألف شخص، وبحلول منتصف الليل قتل أكثر من 78 ألفا من هؤلاء المدنيين الأبرياء، وأصيب أكثر من 51 ألفا أو فقدوا، كما دمر الانفجار والحرائق الناجمة عنه 48 ألف مبنى من أصل 76 ألفا، وألحق أضرارا بـ 22 ألفا أخرى، وترك 176 ألف من سكان هيروشيما بدون سقف فوق رؤوسهم.
عواقب ذلك القصف النووي كانت مرعبة، استمر الضحايا في السقوط من الإشعاع حتى نهاية العام، وكان الكثيرون يتمنون الموت وهم يعانون آلاما وحشية. في المحصلة قتل في هيروشيما حوالي 165 ألف شخص، بما في ذلك أولئك الذين قضوا نحبهم بتبعات الأمراض والحروق قبل نهاية عام 1945.
هاري ترومان، الرئيس الأمريكي الذي كان تولى منصبه قبل 4 أشهر فقط، كان في ذلك الوقت على متن الطراد "أوغوستا". هرع بعد أن علم بنجاح "الغارة النووية" الأولى، إلى قاعة الطعام في السفينة الحربية الأمريكية وأبلغ الحاضرين بصوت مليء بالإثارة قائلا: "لقد أسقطنا للتو قنبلة على اليابان، تتجاوز طاقتها 20000 طن من معادل مادة تي إن تي. لقد كان نجاحا مذهلا".
ترومان كان تحدث عن اتخاذ القرار بإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما بقوله: "كان الأمر متروكا لي لاتخاذ القرار النهائي بشأن وقت ومكان استخدام القنبلة.. اعتبرت القنبلة الذرية وسيلة حرب ولم أشك أبدا في الحاجة إلى استخدامها".
بعد ثلاثة أيام، فتح الأمريكيون مرة أخرى أبواب الجحيم النووي في 9 أغسطس، وارتفع " الفطر النووي " فوق مدينة ناغازاكي بعد أن أسقطت قاذفة قنابل من طراز "بي -29" قنبلة "الرجل السمين" النووية.
في ناغازاكي قتل حوالي 140 ألف شخص، بما في ذلك أولئك الذين فقدوا حياتهم من مضاعفات الإشعاع في غضون 5 سنوات بعد الانفجار.
بعد شهر واحد فقط من القصف النووي، زار وفد من السفارة السوفيتية هيروشيما وناغازاكي، ورصد الدمار الهائل في المدينتين، كما نقل عن امرأة مسنة قولها إن الأمر كان "خطيرا للغاية في أول 5 إلى 10 ايام، حتى أن الأشخاص الذين أتوا لتقديم المساعدة ماتوا هم أيضا. حتى الأسماك نفقت في الماء على عمق ضحل".
جرى التسويق لأسطورة الضرورة العسكرية لاستخدام الأسلحة الذرية في أغسطس 1945 في الولايات المتحدة والعالم وحتى في اليابان في النصف الثاني من القرن 20 وأوائل القرن 21. تلك الحجة الواهية ادعت أن اليابانيين ما كانوا ليستسلموا لولا القنابل النووية، ولكان انهاء الحرب تطلب غزوا بريا للجزر اليابانية، ما يعني تعريض حياة الآلاف من العسكريين الأمريكيين للخطر!
في عام 1945، لم يكن أحد يعتقد أن القنابل النووية هي التي أجبرت اليابانيين على الاستسلام. لم تكن هناك عمليا أي مؤسسات عسكرية في هيروشيما ولا في ناغازاكي التي لم يكن يوجد بها سوى خمسمائة عسكري أيضا، فيما جميع الضحايا تقريبا من المدنيين.
بعد الغارتين النوويتين، واصل المسؤولون اليابانيون التمسك بشعار "مائة مليون سيموتون كشخص واحد". وترى وجهة نظر أن اليابانيين لم يكونوا على استعداد للاستسلام بعد القصف الوحشي لعشرات مدنهم بالقنابل التقليدية، والتي أودت بحياة ما يصل إلى 120 ألف شخص في طوكيو في صيف عام 1945 وحده)، وكانوا مستعدين لتحمل حتى القنابل النووية.
رئيس الوزراء الياباني وقتها كانتارو سوزوكي أقر بأن اليابانيين "تعرضوا لصدمة كبيرة من انفجار القنبلة النووية"، لكن هذا في حد ذاته لا يعني النهاية بالنسبة لهم، مضيفا في نفس الوقت أن "دخول الاتحاد السوفيتي الحرب يضعنا أخيرا في وضع ميؤوس منه ويجعل من المستحيل مواصلة الحرب".
هذا الرأي كان أعرب عنه حتى رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل بقوله: "سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن مصير اليابان قد تقرر بقنبلة ذرية".
أما الأدميرال ويليام هارينجتون ليهي الذي كان ضد قرار ترومان بقصف اليابان بالنووي، فقد قال: "كان شعوري أننا عندما أصبحنا أول من استخدم (الأسلحة الذرية)، قبلنا المعايير الأخلاقية للبرابرة في العصور الوسطى. لم أتعلم شن الحروب بهذه الطريقة، ولا يمكن كسب الحروب بتدمير النساء والأطفال".
روبرت أوبنهايمر، الذي عمل على صنع القنبلة الذرية أنبه ضميره هو الآخر، وقد أبلغ الرئيس ترومان بعد إلقاء قنبلتي هيروشيما وناغازاكي بأنه "يشعر بالدماء على يديه"، وسمع من الرئيس الأمريكي ردا يقول: "لا بأس، سهل إزالة ذلك بالماء".
الغارتان النوويتان على مدينتي هيروشيما وناغازاكي هما بلا شك جريمة حرب لا مبرر ولا هدف لهما، إلا إظهار القوة الغاشمة وإخافة الجميع في ذلك الوقت بهذا السلاح الفتاك. ما حدث في أغسطس عام 1945 لا يمكن أن يوضع إلا في أحلك صفحات التاريخ وأكثرها فظاعة ووحشية.