أقلام الثبات
ربما الرئيس الفرنسي الشاب مانويل ماكرون القادم إلى رئاسة فرنسا من مؤسسة روتشيلد، لا يعرف بدقة تاريخ فرنسا، وماذا قال مندوبوه الساميون في زمن استعمار لبنان الذي اطلقوا عليه تخفيفاً "الانتداب"، عن سياسيي البلد، الذين لم يتغيروا كثيراً، لا بل أن السياسيين الذين انجبتهم الحرب الأهلية واتفاق الطائف الذي أنتج في المصيف السعودي عام 1989، كرس منذ العام 1992 طبقة سياسية، تعتبر بشكل أو بأخر امتداداً اكثر توحشاً للإقطاع السياسي القديم.
ولنسهل على الضيف الفرنسي الأمور، وهويحتفل معنا في بلاد الأرز بالذكرى المئوية لتكريس اتفاقية سايكس ـ بيكو وإعلان "دولة لبنان الكبير"، ماجاء على لسان مندوبيه الساميين فمن مذكرات الجنرال الفرنسي دانتز، الذي كان يشغل مركز الحاكم العسكري في لبنان أيام الحرب العالمية الثانية، يقول: "لقد كنت امثل حكومة فيشي في لبنان وكنت على تواصل مع المخابرات الالمانية، لكنني في السر كنت أخدم تحت قيادة ديغول من أجل أن احرر فرنسا من الاحتلا الألماني... ولكن ما كان يذهلني هو الطبقة السياسية في لبنان حيث كانوا يتوافدون إلى مكتبي لاعلان الوفاء والتأييد لحكومة فيش وللألمان، وكانت تقاريرهم تصل إلى مكتبي ومجملها يركز على اتهام بعضهم بالعمالة لبريطانيا وديغول؟، وبالمقابل عندما كان يأتيني البريد السري من ديغول كنت افاجأ أن نفس الأشخاص يراسلون ديغول لأعلان الوفاء والولاء لفرنسا الحرة ولديغول، ويتهمون بعضهم بعضاً بالخيانة والتبعية لحكومة فيشي!".
أضاف دانتز: "لقد كانو يستلمون المال من الجميع، ويبيعون كل شيء، وعندما نسألهم عن مطالبهم يكون جوابهم نريد لبنان سيداً حراً مستقلاً!.
وهنا اسأل نفسي: إذا رحلنا عنهم فلمن سيبيعون بضاعتهم لكي يقبضوا".
هذا الواقع جعل مندوباً سامياً حلَّ في لبنان نهاية عام 1938، هو المسيو غبريال بيو الذي خلف الكونت دي مارتيل، بعد أن خبر ساسة ذاك الزمان واختلى بهم كثيراً، يرى أن النظام الملكي في لبنان هو الأفضل، لكن بشرط أن لا يكون "هذا الملك لبنانياً، ولا هاشمياً ولا سعودياً، ولا من مصر، ولا باي من تونس"، ولكن يكون "ملكاً مسيحياً أجنبياً، وهو فضل "أميراً أو ملكاً بروتستانياً يعتلي عرش لبنان"، مقترحاً "أن يكون أحد أمراء برنادوت الأسوجيين".
ولو فتش الرئيس ماكرون في ارشيف ووثائق وزارة الخارجية الفرنسية لاكتشف كم أن لبنان منكوب بطبقاته السياسية منذ زمن بعيد، فعلى الدوام كان بين الساسة اللبنانيين رهط يعرف كيف يحوِّل صداقاته، وكيف ينتقل من مكان إلى آخر بسرعة الريح.. ففي زمن المنافسة البريطانية ـ الفرنسية، كان هناك من يجيد صداقة الطرفين، وقبلها أيضاً كان هناك من يجيد العلاقة مع طرفين متناقضين.
ومن الأمثلة على ذلك، أنه في العام 1920 عند إعلان دولة لبنان الكبير وعندما جمع الملك فيصل في الشام المؤتمر السوري كان هناك يوسف نمور عضواً في المؤتمر السوري فيما كان شقيقه موسى عند الفرنسييين ومن أشد أنصارهم في البقاع.
وكان أسعد حيدر عضواً في المؤتمر السوري ونجله عضواً في اللجنة الاستشارية الفرنسية في لبنان.
وكان اسكندر عمون مع الإنكليز وشقيقه داود مع الفرنسيين، فيما بعد كانت رجل كميل شمعون في فلاحة الإنكليز ورجله الأخرى في بور الفرنسيين إلخ.. وإذا كان يقر للفرنسيين "بمكرمة نبيلة" كما يقول اسكندر رياشي، "هي أنهم لم يفضحوا الذين انقلبوا فيما بعد، بل أرسلت المفوضية الفرنسية سنة 1941 أوراقها وسجلاتها تحرقها في أتون النار في هضاب بيت مري كي لا تقع في أيدي الذين يأتون بعدها.. ومن هذه الأوراق ذلك السجل الذهبي الذي يتضمن أسماء جميع الذين كانوا يخدمونها ويبيعونها البلاد بالخفاء بينما يتظاهرون أمام الناس بالنزاهة والوطنية المستقلة التي لا تتقبل انتداباً" لم يتغير الكثير في لبنان الإستقلال، وأن كان كثيرون يتحدثون عن تاريخ هذا وذاك الوطني، حتى أن بعضهم لم يتوان عن الاتصال بالصهاينة من أجل المنفعة، والاستفادة، وتعود هذا الاتصالات إلى السنوات الأولى لقيام دولة اغتصاب فلسطين.
ففي العام 1951، كما جاء في مذكرات وزير خارجية الكيان الصهيوني التي نشرها في "اللوموند" الفرنسية، أن حزب الكتائب طلب آنذاك مساعدة مالية لحملته الإنتخابية التشريعية، زعماً أنه يضم من ألف20 إلى 30 ألف عضو. سأل موشيه شاريت، الموساد حول الموضوع. فجاءت التقارير تفيد بوضوح: " أن هذا الحزب يضم 5000 عضو، وليس لديه أي حظ في الفوز بأي مقعد". بالرغم من ذلك، وافق موشيه شاريت على منحهم مبلغاً متواضعاً وقدره 3000 دولار أميركي، اعترفاً لهم بجميل المساعدة التي كان بعض المسيحيين قد قدموها بصفة فردية ليهود سورية الذين أرادوا "الرحيل" إلى إسرائيل، عندما تأسست الدولة العبرية. ولم يفز حزب الكتائب بأي مقعد في انتخابات 15 أبريل ـ نيسان 1951 تلك. إلّا أن مبادرة الوزير، بالرغم من طابعها الرمزي، لم تكن خالية من خلفية سياسية".
وفي 27 فبراير ـ شباط 1954، كتب رئيس وزراء العدو، دافيد بن غوريون يقول: "إن إنشاء دولة مسيحية (في لبنان) شيء طبيعي، وله جذور تارخية وقد تدعمه قوة مهمة في العالم المسيحي، الكاثوليكي والبروتستانتي على حد سواء. (...) في الوقت العادي، يستحيل تحقيق ذلك تقريباً، بسبب غياب المبادرة والشجاعة لدى المسحيين، قبل كل شيء . ولكن الأمور يمكن أن تتبدّل في حالات الإرتباك، والاضطراب، والثورة أو الحرب الأهلية، فيحسب الضعيف نفسه بطلاً. (...) إنني أرى أن ذلك يشكل مهمتنا الأساسية حالياً، أو إحدى المهام الأساسية لسياستنا الخارجية في أقل تقدير".
ولم تتوقف الاتصالات عند هذه الحدود فقد سبقها اتصالات متعددة بأشكال مختلفة بين قادة الحركة الصهيونية قبل اغتصاب فلسطين وبعدها، ولبنانيين في مواقع مختلفة، وفي عام 1956، قبيل أسابيع من حملة السويس، صرح دافيد بن غوريون لزميله الفرنسي: "سنفكك لبنان، ونخضعه، وسيكون دولة يمكن أن نوقع معها بعض المعاهدات" وفي الأزمات والحروب الأهلية يصبح التدخل الاسرائيلي علناً، ويعود أول اتصال حقيقي بين الدولة العبرية وبعض اللبنانيين، إلى الحرب الأهلية التي أشعلت بيروت في 1958. حيث طلب رئيس الجمهورية انئذٍ، كميل شمعون من جنرال في الجيش الإسرائيلي، اسمه اسحاق رابين، قائد الجبهة الشمالية لإسرائيل، حمولة شاحنة من 500 بندقية هجومية وحصل عليها. وقد عزل شمعون، عقب مسعاه الاستمرار في رئاسة الجمهورية، ووضعت العلاقات مع تل أبيب على الرف".
وفي الحرب الأهلية، (1975 ـ 1990) تتعدد اشكال التدخل وليس من مجال للعودة إليها ونكء والجراح، وخصوصاً أن الأمير يلزمه مساحات واسعة جداً.
يبقى ملاحظة هامة في مئوية دولة المقاطعجية، أن كثيراً من الساسة اللبنانيين الذين يظهرون أعلى درجات الحقد والكراهية ضد سورية الآن، كانوا في يوم مضى ينتظرون "غبرة" رضا رستم غزالي وقبله ابو يعرب كنعان ومعه الخائن الكبير عبد الحليم خدام.
ألكسي دوتوكفيل يقول: "أن الديمقراطية مثل أولاد الأزقة تربي نفسها بنفسها"، ولكن عندنا يبدو أن الديمقراطية لا تليق حتى بأولاد الأزقة.
من مآثر الديموقراطية في زمن مضى، قبل الطائف أن زعيماً سياسياً إقطاعياً كان يباهي بأنه يستطيع أن يوصل 12 عصا إلى البرلمان، ونسأل هنا، ترى هل يعتقد ذاك الإقطاعي أن هؤلاء أعلى مكانة وأرفع شأناً من العصا.
ماذا تغير في جمهورية ما بعد الطائف؟
ثمة حقيقة، أن الديمقراطية عندنا هي ديمقراطية الاغبياء.
فما معنى هذه الديمقراطية، حينما يقود ملوك "المذاهب" العملية الديمقراطية، فيختارون ممثلي الأمة، بمواصفات تجعلنا نترحم على أيام "العصا"، لانهم ظلال، أو ناطقون، مجرد ناطقين بإسم السيدة "الببغاء".
هل تقبلون منا أن نعترف لساستنا الذين يتحولون بقدرة قادر إلى عابرين للقارات، فيصيرون صواريخ يعبرون عواصم العالم فيطيرون من بيروت إلى دمشق فصنعاء ويعبرون من طهران إلى أنقرة فالرياض، ولا يتوقفون في مربط الخيل في باريس، ولا في عاصمة الضباب لندن، أو استوكهولم، حتى أنهم لا يهتمون "بليالي الأنس في فيينا"، فواشنطن عندهم "سيدة العالم" منها تمتد أنابيب المال والذهب الأسود.