حكم إعطاء أصحاب العمل اليومي من الزكاة والصدقات في زمن الوباء

الخميس 02 نيسان , 2020 12:36 توقيت بيروت الفقه الإسلامي والفتاوى

الثبات - علوم إسلامية 

 

حكم إعطاء أصحاب العمل اليومي من الزكاة والصدقات في زمن الوباء

 

أحدث انتشار وباء كورونا في بلدان العالم كسادًا اقتصاديًّا وركودًا ماليًّا على المستوى الفردي والمجتمعي والدولي، ومن أكثر المواطنين تضررًا بهذه الظروف: العاملون بالأجور اليومية، وأصحاب المشاريع متناهية الصغر، وذوو الدخول المحدودة؛ ممن يعتمدون في أرزاقهم على التعامل اليومي والأجور الوقتية والتجارات الصغيرة؛ حيث أدى بهم التزامُهم مع المواطنين بالمكث في البيوت، وما استتبعه ذلك من قلة الحراك المجتمعي؛ تنفيذًا لإجراءات السلامة والوقاية، إلى تعطُّل ما كانوا يعتمدون عليه في كفاية أسَرِهم ورعاية ذويهم، فهم أكثر الطبقات تأثرًا وتضررًا بذلك، وأولى الناس تحققًا بصفة الفاقة والحاجة، فهم على ذلك أَوْلَى مصارف الزكاة استحقاقًا لها بوصف الفقر والمسكنة.

ذلك أن الشريعة الغراء قد حددت مصارف الزكاة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]؛ فجعلت كفايةَ الفقراء والمساكين هو آكد ما تصرف فيه الزكاة؛ حيث كانوا في صدارة مصارف الزكاة الثمانية للتأكيد على أولويتهم في استحقاقها، وأن الأصل فيها كفايتهم وإقامة حياتهم ومعاشهم؛ إسكانًا وإطعامًا وتعليمًا وعلاجًا وزواجًا، وخصَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفقراء بالذكر في حديث إرسال معاذ رضي الله عنه إلى اليمن: «فَإن هم أَطاعُوا لَكَ بذلكَ فأَخبِرهم أَنَّ اللهَ قد فَرَضَ عليهم صَدَقةً تُؤخَذُ مِن أَغنِيائِهم فتُرَدُّ على فُقَرائِهم» متفق عليه.

وفيما أمر به النبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذًا رضي الله عنه أن يعمله في توزيع زكاة أغنياء أهل اليمن على فقرائهم: دلالةٌ على أن الأصل في الزكاة أن تخرج مِن أغنياء كلِّ بلد لفقرائها، ومن القادرين إلى مواطنيهم المحتاجين؛ تحقيقًا لغاية الزكاة التكافلية، وسعيًا للعدالة المجتمعية، وتخفيفًا لوطأة الأزمات الاقتصادية، وتقليلًا من حدة الفوارق الطبقية؛ لتسري في المجتمع روح الانتماء، وينتعش بين أفراده مبدأ المواطنة والإخاء؛ فيستشعروا في بلدهم مسؤوليتهم المجتمعية، ويعيشوا قضاياه الوطنية.

وهذا هو الذي تقتضيه مبادئ السياسة الشرعية؛ ولذلك نص عليه فقهاؤها فيما قرروه من المحددات العامة لوظائف الدولة وسياساتها الاقتصادية والمالية؛ كما صنع قاضي القضاة الإمام أبو يوسف [ت182هـ] صاحب الإمام أبي حنيفة في كتابه "الخراج" الذي رسم به لهارون الرشيد أسس التنظيمات المالية والاقتصادية للدولة الإسلامية ومواردها ومصارفها؛ إذ يقول (ق: 61أ، مخ. جامعة الملك سعود): [ويُقسَم سهمُ الفقراء والمساكين مِن صدَقةِ ما حَوَّلَ كلُّ مدينةٍ في أهلها، ولا يُخرَج منها فيُصَّدَّقَ به على أهل مدينة أخرى، فأما غيره فيصنع به الإمامُ ما أحبَّ من هذه الوجوه التي سمى الله جل وعزَّ في كتابه، وإن صيرها في صنف واحد ممن سمى الله جلَّ ذكرُه أجزأ ذلك] اهـ.

وكان التزامُ ذلك مِن مناقب الحكّام التي يَتمَدَّحُون ويتحبَّبُون بها للرعية؛ فأخرج خليفة بن خياط في "تاريخه" (ص: 365، ط. دار القلم): أن يزيد بن الوليد بن عبد الملك [ت126هـ] خطب في الناس خطبة توليته فقال: "أَيهَا النَّاس إِن لكم عَندي إِن وليت أُمُوركُم: ألَّا أضَعَ لبنةً على لبنةٍ ولا حجرا على حجر، ولا أنقلَ مالًا مِن بلد إلى بلد حتى أسُدَّ ثَغْرَه وأقسم بَين مصالحه مَا يَقْوَوْنَ به، فإنْ فَضَلَ فضْلٌ رَددتُه إلى البلد الذي يَلِيه وهو أحْوجُ إليه؛ حتى تستقيمَ المَعيشَة بين المسلمين وتكونوا فيها سَوَاءً" اهـ.

وظروف الوباء التي تمر بها شعوب العالم -ومن بينها مصر المحروسة- تستوجب من كل بلدٍ تعاونَ أهليه وتكاتفَ مواطنيه، وأن يأخذ أغنياؤه بيد فقرائه، ويقف موسروه مع محتاجيه؛ تفريجًا لكربتهم، ونجدة لفاقتهم، ومواساة لحاجتهم، ولو أدى أغنياءُ كلِّ بلدٍ حقَّ الله في أموالهم لسُدَّت حاجةُ فقرائهم.

فروى الإمام الطبراني في "المعجم الأوسط" عن سيدنا على بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ قَدْرَ الَّذِي يَسَعُ فُقَرَاءَهُمْ، وَلَنْ يُجْهَدَ الْفُقَرَاءُ إِلَّا إِذَا جَاعُوا وَعُرُّوا مِمَّا يَصْنَعُ أَغْنِيَاؤُهُمْ، أَلَا وَإِنَّ اللهَ مُحَاسِبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِسَابًا شَدِيدًا، وَمُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا نُكْرًا».

وروى سعيد بن منصور في "سننه" ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" عن سيدنا عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكْفِي فُقَرَاءَهُمْ، فَإِنْ جَاعُوا وَعَرُوا جَهَدُوا فِي مَنْعِ الْأَغْنِيَاءِ، فَحَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يُحَاسِبَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ".

ومن جهة أخرى: فإنه لما كان أصحابُ العمالة اليومية ونحوهم أكثرَ طبقات الشعب تضررًا من ظروف الوباء، وأشدَّهم حاجة إلى العطاء، كانوا أحقَّ مصارف الزكاة بالأداء؛ فقد اتفق الفقهاء على أن المقصود بالزكوات: إزالة الحاجات، ودفع الفاقات، وأعظم صورها: تفريج الكربات، والنجدة في الأزمات، والغوث في الملمات، وهو واجب الوقت في الزكاة؛ الذي عبروا عنه "بدفع حاجة الوقت":

قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (3/ 11، ط. دار الفكر): [ذكر الله تعالى الأصناف بأوصاف تنبئ عن الحاجة؛ فعرفنا أن المقصود سد خلة المحتاج] اهـ.

وقال العلامة البرهان بن مازه الحنفي في "المحيط البرهاني" (2/ 239، ط. دار الكتب العلمية): [الزكاة إنما وجبت لدفع حاجة الفقر، وحاجته ناجزة] اهـ، وقال أيضًا (2/ 289): [المقصود من الصدقة دفع حاجة الوقت] اهـ.

وقال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه في "المدونة" (1/ 342، ط. دار الكتب العلمية): [إذا كنت تجد الأصناف كلها الذين ذكر الله في القرآن وكان منها صنف واحد هم أحوج: آثِرْ أهلَ الحاجة حيث كانت حتى تسد حاجتهم، وإنما يتبع في ذلك في كل عام أهل الحاجة حيث كانت، وليس في ذلك قسم مسمى.. أرى أن يُؤْثَرَ بالزكاة أهلُ الحاجة حيث كانوا] اهـ.

وقال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني الشافعي في "نهاية المطلب في دراية المذهب" (11/ 533، 541 ط. دار المنهاج): [أجمع المسلمون على أن الصدقات وظائف موظفة في أموال الأغنياء ومن في معناهم، والغرض الكلي منها: صرف قسط من أموال الأغنياء إلى محاويج المسلمين.. ومقصود الشرع: إزالة الحاجات بالزكوات] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 545، ط. دار الفكر): [ويُستحَبُّ أن يبدأ بالأقرب فالأقرب، إلا أن يكون منهم من هو أشد حاجة فيقدمه، ولو كان غير القرابة أحوج أعطاه، قال أحمد: "إن كانت القرابة محتاجة أعطاها، وإن كان غيرُهم أحوجَ أعطاهم"] اهـ.

ولم تكتف الشريعة بجعل الزكاة في مال الغني مستحقة لمصارفها بمجرد حلول وقت أدائها، بل أجازت تعجيلها إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ كما هو الحال في أزمنة الأوبئة والحروب والمجاعات؛ للمساعدة على إدارة الأزمات، وحل المشكلات:

فعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "أنَّ العبَّاس رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلَّ، فرخَّص له في ذلك" رواه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في "السنن"، وابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك" وصححه.

وفي رواية عن علي رضي الله عنه: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمرَ رضي الله عنه على الصدقة، فأتى العباسَ رضي الله عنه يسأله صدقة ماله، فقال: قد عجَّــلْتُ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقةَ سنتين، فرفعه عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «صَدَقَ عَمِّي؛ قَدْ تَعَجَّلْنَا مِنْهُ صَدَقَةَ سَنَتَيْنِ» أخرجها أبو عبيد في كتاب "الأموال".

وبهذا الحديث أخذ جماهير الفقهاء؛ فأجازوا للمزكِّي تعجيل إخراج زكاة ماله قبل أوان محلها؛ رعاية لمصلحة مصارفها، وهو الذي عليه الفتوى، ومنهم من نص على مشروعية تعجيلها في أوقات الأزمات، وفرقوا بينها وبين بقية العبادات: بأن مبنى الزكاة على الإرفاق، ورعاية مصلحة المحتاجين.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل