مربى دلال هوكشتين

الخميس 09 كانون الثاني , 2025 11:18 توقيت بيروت لـبـــــــنـان

الثبات ـ لبنان

«يمكن لشرق المتوسط أن يلعب دوراً في تحرير وسط وجنوب شرق أوروبا من الاعتماد المفرط على الغاز الروسي» ــــــ عاموس هوكشتين، 2016

يطير هوكشتين، يحُطّ هوكشتين. يُغرّد على منصة «أكس» بأنّه سعيد لعودته إلى بيروت فتنشر تغريدتَه وسائلُ الإعلام. يدخل مبتسماً إلى عين التينة فتصبح الابتسامة الخبر. يُدعى إلى حضور جلسة انتخاب رئيس الجمهورية فيتمنّع. يخرج من السراي الحكومي ويُلقي أمام المراسلين الملهوفين نكتة سمجة حول استحالة الإجابة عن الأسئلة قبل إلقاء كلمته فتعلو القهقهة. يغادر بعد الإجابة عن سؤال واحد فلا يعترض أيّ من هؤلاء، وتضيف إحداهنّ في تقريرها أنه وفي حديث خاص أسرّ برغبته في القدوم إلى لبنان حتّى لو لم يكن في مهمة دبلوماسية.


حتّى كبير المنجّمين (والتنجيم في لبنان قطاع مزدهر) يحوك بمسلّة هوكشتين ويُعلم المشاهدين أن زيارة المبعوث الأميركي هي بدافع عاطفي إلى جانب مهمته السياسية. يسهو عن المنجّم خبر أقلّ إثارة، وهو أن زوجة المبعوث المقيمة في واشنطن هي امرأة أعمال تترأس مؤسسة تعبوية تطوّعية يهودية برأسمال ملياري دولار. وعندما يقترف الدبلوماسي المحنّك زلّة لسان، ويطالب عبر الشاشة بأن «ننتخب» رئيس جمهورية، تمرّ الهفوة مرور الكرام. ثمّ تأتي زيارته إلى ستاربكس وحسن ضيافته، من قِبل أحد النواب السابقين والمحسوبين على تيّار يعادي إسرائيل، لتؤكّد شبه الإجماع اللبناني على تكريم جندي سابق في القوات المدرّعة لجيش العدو بما يفوق ما تقتضيه البروتوكولات الدبلوماسية.


تعكس هذه الأنسنة المفرطة إلى حدّ الوله بهوكشتين - إذا ما قورنت بمعاملة (حتى لا نقول سوء معاملة) دبلوماسيين آخرين لا يقلّون «نجومية» مثل محمد جواد ظريف أو سيرغي لافروف - سطوة الغرب الثقافية والنفسية على مجتمعنا والحالة الاستعمارية المهينة التي وصلنا إليها. لا يقتصر الأمر على حجب خلفية هوكشتين الإسرائيلية من قبل الإعلام المعادي للمقاومة، بل على التجاهل التام من كل الأطراف لأجندة الولايات المتحدة الجيواقتصادية التي يمثّلها هوكشتين وشركات الطاقة العالمية من ورائها. لا يمكن فصل هذه المصالح عن دور هوكشتين في المنطقة كعرّاب اتفاقي ترسيم الحدود البحرية ووقف الأعمال العدائية.


قبل أن يُصبح مبعوثاً خاصاً للبنان، عُيّن هوكشتين مبعوثاً خاصاً ومنسّقاً لشؤون الطاقة الدولية للبيت الأبيض وترأس لجاناً عديدة هدفها وبالحرف «منع استخدام الطاقة كرافعة سياسية» (من قبل أعداء الولايات المتحدة طبعاً) مقابل «ترويج مصالح الولايات المتحدة من أجل ضمان تحسين... الأمن القومي». أشرف كذلك هوكشتين، المحبّ للحياة، على ملفّ تطبيق العقوبات القاتلة على نفط إيران ومواردها للطاقة وكُلّف على أثرها بمتابعة ملف العقوبات المرتبطة بالطاقة في سائر أنحاء العالم.


تضمّن هذا التكليف قيادته لمبادرة توثيق الأمن الطاقي لأوروبا. في هذا السياق، دعا هوكشتين منذ عام 2016 إلى فكّ ارتباط أوروبا الشرقية والوسطى بالغاز الروسي ورأى في شرق المتوسط بديلاً عنه. بكلام آخر، «تحرير» أوروبا من الغاز الروسي - كما يصف العملية هوكشتين - يتطلّب تبعيّة شرق المتوسط لأوروبا. تقاطعت هذه الرؤية مع استخدام الطاقة كباب للتطبيع بين الكيان ودول الجوار فتمّ إنشاء شبكة إمداد للغاز والكهرباء تربط بين فلسطين المحتلة ومصر وسوريا مروراً بالأردن. بالرغم من دور هذه الشبكة في التطبيع الطاقي مع العدو وازدياد التبعية الاقتصادية له، تحمّست قوى الممانعة في لبنان لمشروع استجلاب الكهرباء من سوريا لمجرّد أنّ دمشق حليفة، في دلالة على الاستخفاف بدور الحرب الاقتصادية في الصراع. انسحب هذا الاستخفاف على عملية ترسيم الحدود التي رعاها هوكشتين فأتت الاتفاقية لتعترف في الشكل بدولة إسرائيل وتسلّم بواشنطن كمرجعية احتكامية وترى الترسيم مجرّد قضيّة خطوط في البحر متنازع عليها بمعزل عن آليات استخراج النفط ووجهة تصديره (أوروبا حليفة واشنطن) وتوزيع ريوعه (استثمار تنموي أم محاصصة طائفية).


يتشابك نشاط هوكشتين السياسي مع ارتباطه بالقطاع الخاص حيث شغل سابقاً منصب عضو مجلس إدارة شركة الغاز الأوكرانية «نافتو-غاز» ونائب رئيس مؤسسة «كاسيدي وشركاه». الأخيرة هي شركة لوبي غبّ الطلب للمنظمات والشركات الخاصة التي تريد التأثير على قرارات الحكومة الأميركية. وهوكشتين، لهواة حماية البيئة في لبنان، من أنصار تسويق الغاز المسيّل كرديف، وليس مجرد جسر عبور، للطاقة البديلة. وهو كذلك من أصحاب مدرسة تجيير التقدّم التكنولوجي الهائل في شتى المجالات لزيادة إنتاج النفط بكلفة أقلّ من أجل زيادة الربحية بدلاً من تخفيض الإنتاج لرفع الأسعار. وتخفيض الإنتاج هو الاستراتيجية التي اتبعتها تقليدياً الدول المصدّرة للنفط وخاصة «أوبيك». يدعو هوكشتين، في خطابه أمام المؤتمر السنوي للنفط والغاز برعاية «جنرال إلكتريك»، إلى التخلّي عن المقاربات التقليدية واحتضان المستقبل المتأقلم باستمرار مع الطفرات التكنولوجيا. يقع شرق المتوسط في قلب هذا المستقبل، إنّما كوقود لمستعمريه بدلاً من واحة مشرقة لأبنائه.
ما لنا وللعبة الأمم هذه. فلنهلّل لهذا الفرعون الفاتن ولندعه وشأنه بينما نصبّ جام استنكارنا على ما قاله وفيق صفا عن المفتون به سمير جعجع.
*أستاذ جامعي


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل