الثبات ـ عربي
تركّز وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي على جانب الفرح والاحتفالات وتظهير جرائم النظام السوري السابق، منذ إعلان فرار الرئيس بشار الأسد، فيما لم نشهد الكثير من التقارير حول «البديل» الذي ارتبطت باسمه جرائم وتفجيرات وأعمال «إرهابية» لا تقلّ فظاعةً عن الطرف الآخر.
مع انخفاض وتيرة الاحتفالات، والتفات الكثير من السوريين إلى شكل النظام السياسي الذي قد ينشأ عن التغيير الأخير، كان لافتاً وجود تيّارين متوازيين: الأول يؤكد على سلمية التغيير وحفاظ حقوق الجميع، والحرص على تقييد الفوضى والعنف، وهو أمر نجح في حفظ الاستقرار حتى الآن، وخصوصاً مع تعطيل عمل الكثير من المؤسسات العامة، والتيار الثاني يهدّد ويتوعّد بمحاسبة هذا وذاك.
وفي التهديدات الأخيرة والوعيد بمحاسبة ضباط من الجيش السوري النظامي انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي، نُشر أيضاً «بلاغ» أول من أمس عبر حساب وزارة الإعلام السوريّة على تليغرام جاء فيه: «نؤكّد أنّ جميع الإعلاميين الحربيين الذين كانوا جزءاً من آلة الحرب والدعاية لنظام الأسد الساقط، وأسهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في الترويج لجرائمه ومجازره ضد الشعب السوري، سيخضعون للمحاكمة العادلة ضمن إطار العدالة الانتقالية، التي تهدف إلى تحقيق الإنصاف ومحاسبة كل من تورّط في انتهاكات جسيمة بحق أبناء شعبنا». علماً أنه سبق أن نُشر بيان جاء فيه «أنّه لن يتم المساس بالصحافيين والعاملين في المؤسسات الإعلامية».
التصريحات والبيانات المتعلقة بـ «محاكمات ومحاسبات» صادرة عن الإدارة العسكرية الجديدة للبلاد، تفتح الباب للسؤال حول ما المقصود بالمحاكمة، وما شكلها، وتبعيّة القضاء فيها والقانون الذي ستعمل وفقه، خصوصاً باعتبار أنّ الجهة التي تدعو إلى المحاسبة هي نفسها متورّطة في جرائم وعمليات قتل ومجازر، وحتى حوادث خطف واعتقال على أساس سياسي وطائفي في مناطق مختلفة من سوريا من أرياف حمص واللاذقية وإدلب إلى دوما وعدرا العمالية، وعشرات الأحياء في دمشق وحلب... في هذا السياق، كيف يمكن لجهة متورّطة في «سفك الدم» السوري أن تكون هي ذاتها الجهة المحاسبة.
في جميع الأحوال، ومن خلال مراجعة أحدث سياق حول المصالحات بعد الحروب، عادة ما يقوم المنتصر بخلق وتغذية خطاب كراهية تجاه الفئة الخاسرة، ما يزجّ البلاد في دوّامة من أعمال العنف غير النهائية، وحالة من عدم الاستقرار وعجز عن البناء لأجل مستقبل لا عنف فيه، في ما يشبه حالة السنوات الأخيرة من حكم الأسد، حين عجز عن بناء عملية سلام تقوم على المصالحة مع باقي الأطراف. لذلك، قد يكون مهماً النظر في تجربة نيلسون مانديلا الذي نجح في تحويل جنوب أفريقيا ــ من دون حقد ـــ إلى ديموقراطية مستقرّة متعددة الأعراق، حتى صار رمزاً عالمياً للمصالحة، وحظي بمحبة ومودّة البيض وليس فقط أنصاره من السود، لأنّه لم يظهر مرارةً على كل السنوات التي أمضاها خلف القضبان، بل ركّز في هدفه على بناء «أمة تعيش بسلام في الداخل ومع العالم».