الثبات ـ دولي
دونالد ترامب، الرئيس الأميركي المنتخب والذي يُعرِّف نفسه ويعرفه أنصاره بأنه «رجل السلام» في أوكرانيا والداعي إلى «إنهاء الحروب» التي أشعلها خصومه الديموقراطيون على العالم، خاطب الفلسطينيين قبل أيام بكل عنجهية الكاوبوي الدموي بالكلمات الآتية: «إذا لم يتم إطلاق سراح الرهائن قبل 20 يناير 2025، وهو التاريخ الذي أتولى فيه بفخر منصبي كرئيس للولايات المتحدة، فسيكون هناك جحيم سيدفع الشرق الأوسط ثمنه الباهظ، وأولئك المسؤولون الذين ارتكبوا هذه الفظائع ضد الإنسانية». وذكر: «سيتعرّض المسؤولون عن ذلك لضربة أقوى من أي ضربة أخرى تعرّض لها أي شخص في التاريخ الطويل والحافل للولايات المتحدة الأميركية، أطلقوا سراح الرهائن الآن»!
ترى هل ترك نتنياهو في غزة شيئاً ذا بال للرئيس ترامب ليضربه «ضربة أقوى من أي ضربة أخرى تعرّض لها أي شخص في التاريخ الطويل والحافل للولايات المتحدة الأميركية»! هل يلمح ترامب، عبر تفاخره «بالتاريخ الحافل للولايات المتحدة»، إلى قضاء أسلافه المهاجرين الآريين البيض على السكان الأصليين بواسطة البنادق السريعة الطلقات والويسكي والبطانيات الملوثة عمداً بجراثيم الجدري والأوبئة الأخرى، أم أنه يلمح إلى الضربتين الذريتين النافلتين اللتين قام بهما سلفه هاري ترومان على هيروشيما ونكازاكي اليابانيتين؟ لقد سجّل الخبراء أن مجموع القوة التفجيرية للقنابل والصواريخ التي دمَّر مجرم الحرب نتنياهو بها غزة فاقت بقوتها وعصفها قنبلتي ترومان الذريتين واللتين خلفتا، وما زالتا تخلفان، مئات الآلاف من القتلى والمشوهين اليابانيين، فهل يعتزم ترامب استكمال حرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين بعقلية تاجر العقارات وسمسار الملاهي الليلية الصريحة والعنيفة؟
إن هذه التهديدات والصيحات الهمجية ضد شعب أعزل محاصر ومجوَّع نزف الكثير، وضد مقاومة نبيلة تقاتل باللحم الحي دفاعاً عن شعبها، إن هذه الصيحات والتهديدات ليس لها أي معنى أو محمول سياسي سوى العنجهية العنصرية الآرية الفاقعة والفارغة. قد صمدت المقاومة الفلسطينية الغزاوية شبه العزلاء لأكثر من عام ضد أعتى ماكينة حربية أنتجها البشر، بعد أن هزمت جيش الكيان هزيمة يندر مثلها في تأريخ الحروب بين بني البشر في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. وهي تصريحات جوفاء وهستيرية تدل على أن هذا الرجل المسن بلغ درجة الهوس وتحول مرضه بالشعور بالعظمة الذي ينتابه إلى النرجسية البهيمية القاتلة التي لا شفاء له منها. لقد نسي ترامب «شجاعته الخارقة» حين سافر سراً إلى مستعمرته العراقية ليلاً، مساء 27 من كانون الأول 2018، إبّان مدة رئاسته الأولى، وحينها أمر الطيارين بأن يطفئوا أضواء الطائرة التي كانت تقلّه خوفاً من صاروخ يترصّده حتى حطت في قاعدة عين الأسد في الصحراء العراقية الغربية، ولم يمكث هو وزوجته سوى سويعات قليلة مع جنوده الذين جمعوا على عجل، ثم هرب بالطائرة المطفأة الأضواء نفسها!
إن تصريحات ترامب هذه لا يمكن وضعها في أي سياق سياسي قابل للفهم والمحايثة خارج إطار التهديد الفج والعنجهية التي لا تمت بصلة إلى الديبلوماسية والسياسة بعامة، بل هي أقرب إلى رصاصات التخويف وإثارة رعب الأطفال التي كان أجداده البيوريتان يطلقونها على مخيمات السكان الأصليين قبل أن يشنوا عليهم هجماتهم الإبادية. وهي أيضاً نوع من الصراخ الصبياني الذي سيثير سخرية الفلسطينيين قبل غيرهم، فهم الشعب المعتدى عليه، والذين فقدوا كل شيء وفي مقدمة ما خسروا أرواح عشرات الآلاف من القتلى وأكثر من مائة ألف جريح ومفقود تحت الأنقاض. وحين يهدّد ترامب أناساً كهؤلاء بضربة «من ضربات الولايات المتحدة ذات التأريخ الحافل» بالجرائم ضد شعوب العالم، فهو يؤكد بالملموس إفلاسه الأخلاقي كشخص يعيش في القرن الحادي والعشرين مثلما يؤكد محدودية معارفه وكفاءته كرئيس دولة عظمى، ويلحق أفدح الضرر بسمعة شعبه الذي لا يخلو كسائر الشعوب من الشرفاء والمنصفين.
الثنائي ترامب ونتنياهو يحملان وجهة نظر إبادية عنصرية خرافية واحدة، تستمد أوهامها من التوراة وتعاليم الحركة الصهيونية
وفي السياق ذاته، تُكْثِر وسائل الإعلام الإسرائيلية والعربية الرديفة لها كـ«العربية» و«الحدث» و«سكاي نيوز» هذه الأيام من الكلام والتلميحات عن قرب التوصل إلى اتفاقية جديدة لتبادل الأسرى وهدنة مختلَف على مدتها بين المقاومة الفلسطينية وحكومة نتنياهو، ولكن قوات هذا الأخير تمارس على الأرض سياسة الأرض المحروقة والتهجير العلني، وخصوصاً من شمالي القطاع والإبادة الجماعية بدموية وهذيانية مرعبة.
وإنْ كان ثمة من دلالة إضافية لتصريحات ترامب الجديدة، وممارسات جيش الاحتلال على أرض غزة، فهي كونها تنطوي على ازدراء تام للرأي العام العالمي الذي أبدى رفضاً واسعاً لهذه الممارسات الفاشية، وازدراءً أكبر لمذكرتي الاعتقال اللتين أصدرتهما المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت.
لقد بدأت ترتفع في الآونة الأخيرة، حتى في داخل الكيان، أصوات صريحة في رفضها لهذه الحرب الإبادية، وحذرت من الخراب الذي يقود نتنياهو الكيان إليه، كما جاء ذلك واضحاً على لسان دانيال بالطمان، المؤرخ الإسرائيلي المتخصص بالهولوكوست، في مقالة نشرت في صحيفة «هآرتس»، الأحد 17 تشرين الثاني، اتهم فيه قيادة الكيان بارتكاب جريمتي «التطهير العرقي والإبادة الجماعية» في غزة، ومحاولة التهرب منهما. وصف البروفيسور دانيال بالطمان، الجنرال الإسرائيلي المتقاعد، غيورا آيلاند، الذي وضع ما عُرف بـ«خطة الجنرالات» لتجويع المدنيين الفلسطينيين في شمال قطاع غزة وقتلهم أو تهجيرهم، بأنه «الممثل الأبرز للانهيار الأخلاقي الإسرائيلي وانعدام القدرة على فهم الواقع التاريخي في هذه الأيام». أمّا عاموس شوكن، مالك امتياز صحيفة «هآرتس»، فقد اتهم حكومة نتنياهو، في مؤتمر صحافي علني بلندن، بفرض «نظام فصل عنصري قاس» ضد السكان الفلسطينيين، ودعا إلى فرض عقوبات دولية على القادة الإسرائيليين، كما وصف شوكن المسلحين الفلسطينيين بأنهم «مقاتلون من أجل الحرية»!
من الواضح، أنّ الثنائي ترامب ونتنياهو يحملان وجهة نظر إبادية عنصرية خرافية واحدة، تستمد أوهامها من التوراة وتعاليم الحركة الصهيونية. ولكنَّ الرجلين متماثلان أيضاً في جهلهما في التاريخ عموماً وتاريخ منطقتنا خصوصاً، وفي طبيعة الجنس البشري وخصوصيات الشعوب، ويعتقدان أن الحديد والنار والحرمان من الغذاء يمكن أن يحمل الشعوب على الخضوع والاستسلام للظلم وسرقة الأرض والاستعباد ولا يريدان أن يقتنعا بدروس التاريخ فيمضيان قدماً بلغة الدم والقتل والاضطهاد، فهما مدفوعان بتلك الأوهام والأيديولوجيا التوراتية والعنصرية التي نسفتها العلوم الحديثة كالإركيولوجيا والأنثربولوجيا وتفرعاتهما ومعهما الزمن المعاصر سريع الإيقاع والفعالية.
وفي الواقع، فحتى التوراة التي عُرفت بتناقضاتها الفاقعة والكثيرة، وبعد أن أخبرتنا في سفر القضاة «وَحَارَبَ بَنُو يَهُوذَا أُورُشَلِيمَ وَأَخَذُوهَا وَضَرَبُوهَا بِحَدِّ السَّيْفِ، وَأَشْعَلُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ» (قض 1: 8)، تعود لتخبرنا بعكس هذا المضمون في موضع آخر منها وتقول إن العبرانيين إنما تسللوا تسللاً إلى أورشليم القدس وساكنوا اليبوسيين الكنعانيين. ورغم أنني لا أعتبر التوراة كتاباً تأريخياً صحيحاً في غالبه الأعم، ولكني أقتبس منه هذه الفقرات على سبيل محاجَّة ترامب وغيره من الجُهّال، ممّن يزعمون الإيمان بالتوراة، ويكررون أن العبرانيين - اليهود - بني إسرائيل، مع أخذ الفرق بين هذه المفردات بنظر الاعتبار البحثي، هم الذين بنوا مدينة أورشليم القدس وهم الأحق بها ولهذا نقل ترامب سفارة بلاده إليها، فهي -التوراة - تقول في سفر القضاة: «فَسَكَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْكَنْعَانِيِّينَ» (قض 3: 1-5). وفي السفر نفسه تؤكد التوراة أن اليبوسيين، وهم قبيلة كنعانية، كانوا هم سكان أورشليم، فتقول: «وَبَنُو بَنْيَامِينَ لَمْ يَطْرُدُوا الْيَبُوسِيِّينَ سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ، فَسَكَنَ الْيَبُوسِيُّونَ مَعَ بَنِي بَنْيَامِينَ فِي أُورُشَلِيمَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ» (قض 1: 21). ويحاول شارحو التوراة أن يحلّوا هذا التناقض المستعصي بأن قسموا أورشليم إلى أقسام، بعضها أُخذ بالسيف وأحرق، وبعضها الآخر أُخذ سلماً وتسللاً. وإذا ما علمنا أن أورشليم في أواخر العصر البرونزي، كما اكتشف علماء الآثار والإناسة الأجانب وبالأدلة الملموسة وأشهرهم البريطانية كينيون والدنماركي لمكة والهولندية شتاينر، لم تكن سوى بلدة صغيرة على التلال الوسطى لا يزيد عدد سكانها على الألفي نسمة ومساحتها على 12 هكتاراً (شتاينر)، وأن مساحة مملكة يهوذا كلها كانت لا تزيد على مساحة جزيرة جوتلاند (Jutland) الدنماركية التي تبلغ مساحتها نحو 3140 كيلومتراً مربعاً كما يرى الباحث الدنماركي نيلز لمكة، أمّا مساحة فلسطين الكنعانية والمعاصرة فهي قرابة 27 ألف كيلومتر.
حسنٌ، يا مستر ترامب، نحن نعلم أن مدة عهدتك الرئاسية أربع سنوات، فهل تعلم أن عمر الشعب الفلسطيني على أرضه في طوريه الكنعاني والعربي يمتد إلى آلاف السنوات؟ وعلى فكرة أيها «الفاهم» في التاريخ، اسأل أصدقاءك الصهاينة علماء الأركيولوجيا الإسرائيليين من أمثال فنكلشتاين وزئيف هيرتسوغ وشلومو ساند، فهم يعرفون جيداً وقد كتبوا ذلك في مؤلفاتهم أن أورشليم/ القدس لم يبنِها العبرانيون أو اليهود كما تعتقد أنت، بل بناتُها ومؤسّسوها هم اليبوسيون الكنعانيون أجداد الفلسطينيين العرب المعاصرين.