الثبات ـ لبنان
قبل أسبوع، نقل وزير الاقتصاد أمين سلام «بشرى سارة» إلى اللبنانيين في ختام جولته الطويلة في الولايات المتحدة، مفادها أن حظوظه مرتفعة لتولّي رئاسة الحكومة المقبلة. وسلام لم يُلقِ هذه العبارة عن عبث، فهو لمن لا يعرف، «صديق مقرّب» إلى رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب ووالد صهره مسعد بولس كما يدّعي، وغالباً ما يتنقّل على الشاشات ليتحدّث بما جرى تداوله في جلساته الحميمَة معهما والنكات التي يتبادلونها، ويتحدّث عن خطط الإدارة الأميركية للبنان والمنطقة. وفيما ينتظر سلام انتخاب رئيس للجمهورية كي تكتمل الفرحة بوصوله إلى السراي الحكومي، ثمة ما نغّص عليه فرحته قبل أن تتم، إذ جمّدت هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان حسابات شقيقه كريم سلام الذي يشغل إلى جانب عمله في مصرف «فرنسبنك»، منصب المستشار الاقتصادي والمالي في الوزارة. وعمّمت الهيئة القرار على جميع المصارف وطلبت تزويدها بجميع كشوفات حساباته وتجميد حتى كل ما أودعه في الخزنات التي استأجرها داخل المصارف والتي يصعب أن تظهر في كشف الحساب. كذلك جمّدت الهيئة الحسابات المصرفية التي يمكن لكريم سلام تحريكها بموجب وكالة، ومن ضمنها حساب لوزير الاقتصاد، إلى حين استكمال التحقيقات والانتهاء منها. غير أن الوزير رأى في هذا الإجراء «استهدافاً سياسياً بلا طعمة سيفشلون فيه على مختلف الأصعدة، وما جرى هو تدبير احترازي والموضوع أخذ أكبر من حجمه»، وفقاً لما قاله قبل دخوله إلى جلسة مجلس الوزراء يوم أمس. فـ«كلما سافر وزير الاقتصاد وعمِل للبلد منحركش بخيّو والموضوع أصبح ورائي. وبدل أن يساعدونا في العمل وعلى صعيد الاتصالات، يهاجموننا».
هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان تجمّد حسابات كريم سلام
بعيداً عن «النكايات السياسية» التي يقول وزير الاقتصاد إنها وراء هذا الملف، فإن الأسباب الفعلية لتجميد حسابات شقيقه تعود إلى تورّط الأخير في صفقات مالية تتعلق بشركات التأمين، بضوء أخضر من الوزير. وهذا الملف بات ثقيلاً جداً وحافلاً بالدعاوى القضائية والإخبارات التي تؤكد جميعها تورّط الوزير وشقيقه. فالأخير كان أحد الذين استدعاهم رئيس محكمة الجنايات في بيروت القاضي سمير عقيقي قبل أشهر في إطار التوسّع بالتحقيق في قضية شركة «المشرق للتأمين»، والتي بدأت بإخبار تقدّم به المدير العام للشركة جورج ماطوسيان نهاية العام الماضي ضد كريم سلام والمستشار السياسي لوزير الاقتصاد فادي تميم، بتهمة ابتزاز شركات التأمين لتقاضي رشى تحت طائلة تجريد هذه الشركات من تراخيصها وسحبها من وزارة الاقتصاد. آنذاك، أصدرت الهيئة الاتهامية برئاسة القاضي ماهر شعيتو مذكّرة إلقاء قبض بحقّ تميم وإحالته إلى محكمة الجنايات في بيروت لمحاكمته، فكان كبش محرقة الشقيق الذي بقي يسرح في الوزارة ويتابع عمله كالمعتاد من دون أي محاسبة وبصلاحيات واسعة. حصل ذلك رغم إصدار مجلس شورى الدولة أيضاً قراراً بوقف تنفيذ قرار وزير الاقتصاد بتعليق ترخيص شركة «المشرق»، وإشارته في متن القرار إلى أن الوزير «يُمارس الصلاحيات الممنوحة له للتشفّي من الجهة المستدعية التي لم ترضخ للابتزاز ويخالف القانون بتعليق التراخيص من دون استشارة المجلس الوطني لهيئات الضمان المكلّف بهذه المهمة»، والذي يحول الوزير دون تشكيله لإبقاء شركات التأمين تحت رحمته. و«المشرق» هي واحدة من مئات الشركات المضطرة إلى التعامل مع وزارة الاتصاد خصوصاً إذا كانت مخالفة للقانون وتسعى لتسوية أوضاعها، فتقع في شرك شقيق الوزير ومستشاره، إذ تبيّن في التحقيق أنه تحت التهديد بسحب ترخيص الشركة، طلب تميم من ماطوسيان 250 ألف دولار بدل «أتعاب» لتسوية وضع شركته، وعندما دفع ماطوسيان 100 ألف دولار أصرّ تميم على تقاضي المبلغ كاملاً. وعندما رفضت «المشرق» الدفع سحبت وزارة الاقتصاد ترخيصها، ما دفع ماطوسيان إلى اللجوء إلى القضاء. ويذكر عقيقي في التحقيق أن شقيق الوزير ومستشاره عملا معاً على «ابتزاز شركات التأمين الراغبة في تجديد تراخيصها عبر قبض الأموال منها». غير أن سلام نفى تقاضيه أي مبالغ مالية من الشركة، مشيراً إلى أنه «لا يعلم ما إذا كان تميم قد فعل ذلك»، وأكّد أنه التقى بصاحب الشركة أكثر من مرة في الوزارة بترتيب من رئيس بلدية بيروت. وأنهى القاضي تحقيقه بخلاصة أن ثمة «شبهات جدية تدور حول دور شقيق وزير الاقتصاد في هذه القضية وهي تستحق التوسّع في التحقيق لتوضيح دوره وإجراء الملاحقة بحقه في حال توافر الأدلة». أما نقيب خبراء المحاسبة إيلي عبود الذي لعب دور الوسيط، فتبيّن «أنه أدلى بشهادته أمام المحكمة بشكل يثير الالتباس والضبابية حول الوقائع، ما يقتضي التحقّق من توافر شروط كتم المعلومات وفقاً لما نصّت عليه المادة 408 من قانون العقوبات». ورأت المحكمة ضرورة إحالة الأوراق مجدداً إلى النيابة العامة المختصة للاطّلاع واتخاذ الإجراءات المناسبة بحق كل من ماطوسيان وكريم سلام وعبود وفقاً لما تقدّم.
عند هذا الحدّ، عاد التحقيق إلى القاضي علي إبراهيم الذي استدعى سلام في تموز الماضي، وطلب أخيراً من هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان تجميد حسابات سلام ورفع السرية المصرفية عنه. وتجدر الإشارة إلى أن الهيئة ذات طابع قضائي وغير خاضعة في ممارسة أعمالها لسلطة مصرف لبنان، إنما مهمتها التحقيق في العمليات التي يشتبه في أنها تشكّل جرائم تبييض أموال وتقرير مدى جدية الأدلة والقرائن على ارتكاب هذه الجرائم أو إحداها. ويحصر بالهيئة حق تقرير رفع السرية المصرفية لصالح المراجع القضائية المختصة أو لصالح الهيئة المصرفية العليا وذلك عن الحسابات المفتوحة لدى المصارف أو المؤسسات المالية والتي يشتبه في أنها استُخدمت لغاية تبييض الأموال. وعليه، يُفترض أن ينهي القضاء تحقيقاته ويصدر قراره فور انتهاء مهمة هيئة التحقيق الخاصة، ويبقى التخوّف مشروعاً من التدخلات السياسية لإقفال هذا الملف كما حصل سابقاً، أو التضحية بكبش محرقة جديد لحماية وزير الاقتصاد وشقيقه.