الثبات ـ دولي
لم يكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحاجة إلى فشل "مؤتمر باريس الإنساني حول غزة" من أجل إظهار تخبّط سياسته الشرق أوسطية وضياعها بين زواريب التعقيدات العاصية على فهم مصرفي أصبح رئيساً لواحدة من أهم الدول الأوروربية.
ولم يعد ينفع مع هذا التخبط أي استدارة إلى الخلف من عيار مطالبة الرئيس الفرنسي الجديدة بوقف كامل لإطلاق النار، بديلاً من المطالبات السابقة بهدنة إنسانية مؤقتة.
أراد ماكرون أن يُظهر دعماً غير مشروط للسياسة الإسرائيلية وأن يزايد على الولايات المتحدة بإعلانه الشهير خلال زيارته "تل أبيب"، "تحويل التحالف الدولي الذي أنشئ عام 2014 لمحاربة داعش، من أجل محاربة حركة حماس"، وما تلاه من إعلانات متكررة عن "حق الدولة اليهودية في الدفاع عن نفسها"، وهو العنوان العريض الذي تمنح الدول الغربية من خلاله "إسرائيل" رخصة قتل الفلسطينيين وتدمير بيوتهم ومستشفياتهم.
تعرض ماكرون لسيل من الانتقادات اللاذعة، مصدرها الجهاز الدبلوماسي الفرنسي، ابتداءً من السفراء العاملين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (دول المغرب العربي)، وصولاً إلى دبلوماسيي القارة الأفريقية ودول الجنوب عامةً.
هؤلاء، يشعرون بالقلق على صورة فرنسا وأمنها، في الدول العربية والإسلامية إزاء الدعم غير المشروط الذي عكسته سياسة ماكرون لـ"إسرائيل"، كما جاء في صحيفة "لوموند".
يأخذ دبلوماسيي فرنسا في الدول العربية ودول الجنوب على ماكرون أنّه لم يلحظ خلال اتخاذه مواقف "الدعم غير المشروط" لـ"إسرائيل"، علاقات فرنسا بالدول العربية والإسلامية، التي ترفض تشبيه "حماس" بداعش أو وصف الحركة بالإرهابية.
وأبعد من ذلك، لم يلحظ ماكرون الجهد الاستثنائي الذي يبذله سفراء ودبلوماسيو فرنسا لإعادة ترطيب الأجواء ونسج علاقات متجدّدة مع دول فقدت ثقتها بفرنسا، كما في الدول الغربية الأخرى، منذ بداية الحرب الأوكرانية، بسبب المعايير المزدوجة التي اتبعتها هذه الدول.
ويخشى الدبلوماسيون الفرنسيون من أن يثبّت دعم فرنسا غير المشروط لـ"إسرائيل"، على حساب حق الشعب الفلسطيني، قناعة هذه الدول الفعلية بازدواجية المعايير الغربية.
صحيفة "لوموند" نقلت عن أحد هؤلاء الدبلوماسيين: "نحن نعارض ما يبدو وكأنّه اصطفاف مع إسرائيل وما يحدث الآن سيكون له تأثير هائل، لعقود من الزمن على صورة فرنسا وأمنها".
الواضح، أنّ إيمانويل ماكرون حاول في كلمته أمام "مؤتمر مساعدة غزة"، أمس الخميس (9 تشرين الثاني/نوفمبر) في باريس، أن ينفذ نصف استدارة في مواقفه من حرب غزة، تلبية لنصيحة دبلوماسيي فرنسا الشرق أوسطيين على وجه الخصوص، فأعلن، أمام عدد من المسؤولين العرب، ما كان يطالب به هؤلاء منذ الأسبوع الأوّل للعداون الإسرائيلي، أي "وقف إطلاق نار" وليس هدنة انسانية.
لكن يبدو، أنّ ماكرون وصل إلى هذه القناعات متأخراً جداً، فالمدعوين لهذا المرتمر لم يؤكدوا تلبية الدعوة إلا قبل ساعات قليلة من الانعقاد.
وبحسب المعلومات، فقد أرسل الإليزيه مسبقاً رسائل تطمين لهؤلاء بأنّ فحوى كلمته لن تكون تكراراً لكلماته السابقة خلال زيارته الشرق أوسيطة، وأنّها ستتضمن دعوة لوقف إطلاق النار، ومع ذلك كان الحضور في مجمله منخفض المستوى، فحضور الدول المؤثرة من بينها الدول العربية، لم يتعدّ مستوى نائب وزير.
من ناحية ثانية، فشل المؤتمر فشلاً ذريعاً في حشد الدعم المالي للقطاع، والوعود التي قدّمتها بعض الدول ليست سوى وعود قدّمت سابقاً، وتمّ تكرارها في المؤتمر الباريسي، حتى مبلغ الـ100 مليون يورو التي وعد بها ماكرون، ففي جزء منها (20 مليون يورو) وعود سابقة وستقدّم على مدار عام كامل.
العامل الأخير الذي شكل حافزاً لاستدارة ماكرون، أو ما يوصف اليوم بـ"تغيير في السياسية الفرنسية"، هي أيضاّ نصيحة جاءت من دبلوماسيين فرنسيين مخضرمين في العلاقات مع دول الجنوب، فحواها أنّ استمرار فرنسا بالإعلان علانية تقديم هذا الدعم غير المشروط لـ"إسرائيل" قد يزيد من حدّة استقطاب كل من روسيا وتركيا لدول فقدت ثقتها بفرنسا وبدول الغرب عموماً.