الثبات ـ دولي
تتزايد أعداد الشباب الغربي المناصر للفلسطينيين على نحوٍ لافت. مئات الآلاف نزلوا إلى الشوارع في الأسابيع الماضية حول العالم، فيما يُتوقّع أن تتعاظم هذه الأرقام في الأيام المقبلة. إنّها حكاية جيل لا يريد أن يرث شيئاً من قناعات آبائه أو أجداده. يبحث عن المعلومات من مصادر غير تقليدية، يشارك ويناقش عبر منصات التواصل الاجتماعي والجامعات أفكاره وآراءه في ما يحصل. والأهم أن قضية الشعب الفلسطيني صارت جزءاً من صراعه مع المنظومة السائدة وبناء مفهوم آخر أكثر «عدالة»!
في السنوات الأخيرة، واجهت إسرائيل معركة للحفاظ على تعاطف ودعم الجيل «زي». تسمية تُطلق على مَن وُلدوا في الفترة الممتدة من منتصف التسعينيات إلى عام 2012. برز هذا الجيل كقوّة جديدة في تشكيل الرأي العام ووجهات النظر العالمية. وبينما تمتّعت إسرائيل تاريخياً بدعم كبير، ولا سيّما في الولايات المتحدة، فإنّها تصارع الآن في حربها على غزة مشهداً متغيّراً، إذ تخضع أفعالها وسياساتها لمزيد من النقد من قبل الأجيال الشابة، بالتوازي مع تظاهرات مناصرة لفلسطين تطالب بوقف فوري لإطلاق النار والمجازر.
نشأ الجيل «زي» في العصر الرقمي. أفاق على دنيا فيها سوشال ميديا وهواتف ذكية وتطبيقات لا تُحصى. تمتّع بوصول غير مسبوق إلى المعلومات من مصادر منوّعة. جيل واعٍ وعلى دراية كبيرة بما يحمله من ضغوط مالية وسياسية واجتماعية ورثها من سابقه. يشكّك في سردية الأنظمة والحكومات بطبعه، كما أنّه على دراية ممتازة بوسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الإعلام البديل، إذ تُنشر وتُناقش الأحداث العالمية بسرعة وبعيداً من السرديات السلطوية والسائدة. وقد جعله هذا المدّ الكبير بالمعلومات أكثر وعياً بالقضايا الدولية، بما في ذلك القضية الفلسطينية. أدّى هذا التنوّع في المعلومات إلى تشكيك الجيل «زي» في تصرفات الحكومة الإسرائيلية وسياساتها والوضع العام في المنطقة، ما دفعه إلى تكوين آرائه الخاصة التي غالباً ما تكون أكثر نقديةً.
أظهر الشباب الأميركي تعاطفاً أكبر مع الجانب الفلسطيني مقارنة بكباره. على سبيل المثال، في استطلاع للرأي أجرته gallup في 16 آذار (مارس) الماضي، تبيّن أنّ الشباب الأميركي هو أوّل جيل داخل الولايات المتحدة يتعاطف مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين. كذلك الأمر في المملكة المتحدة، إذ أعرب الأشخاص الذين تُراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً عن دعم أقوى للفلسطينيين مقارنة بالإسرائيليين، على عكس الفئات العمرية الأكبر سناً. يمكن ملاحظة هذا التحوّل بين الأجيال أيضاً في الجامعات، حيث أصبحت الدعوات للاحتجاج ضد إسرائيل مثلاً أكثر شيوعاً بين الطلاب والأكاديميين الشباب. لعب مفهوم «النسوية التقاطعية» دوراً في هذا الاتجاه، إذ أكّد على تشابك التمييز في جميع أشكال الهويات السياسية والاجتماعية. إضافة إلى ذلك، ينظر الشباب بشكّ وريبة إلى الروايات الرسمية. ولا يقتصر هذا التحوّل على إسرائيل فقط، بل يمتد إلى انعدام الثقة العامة بالروايات الرسمية كلّها، وفقاً لتحليل نشره موقع UnHerd في 6 كانون الثاني (يناير) الماضي.
يتميز الجيل «زي» بقيمه التقدمية وميله نحو حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. وغالباً ما يكون على خلاف مع أيّ إجراءات أو سياسات يعتبرها قمعية أو غير عادلة. نجد المنتمين إليه في طليعة العديد من الحركات الاجتماعية، بما في ذلك تغيّر المناخ، والعدالة العرقية، والهوية الجندريّة. وفي سعيهم لتحقيق العدالة والمساواة، انتقدوا أيضاً طريقة تعامل إسرائيل مع الشعب الفلسطيني، فانتشرت مصطلحات تصفها بكيان فصل عنصري في السنوات الأخيرة. أضف إلى ذلك، استطاع الشتات الفلسطيني حول العالم نشر قصص وتجارب أقربائهم الذين عايشوا النكبة، وبالتالي وصلت الرواية الفلسطينية عمّا حصل من تهجير ومجازر عبر أصحاب الأرض.
انقسام واضح بين الأجيال حول كيفية رؤية الناخبين الأميركيين للحرب الإسرائيلية
آخر المعلومات المرتبطة بهذا السياق، وردت في تقرير نشره موقع «أكسيوس» في 26 تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، أشار إلى انقسام واضح بين الأجيال عندما يتعلّق الأمر بكيفية رؤية الناخبين الأميركيين للحرب الإسرائيلية على غزة المستمرّة منذ 32 يوماً. واللافت في التقرير أنّ بيانات استطلاعات الرأي تعكس الحالة الحقيقية على الأرض في أوضح أشكالها. على سبيل المثال، تواجه الجامعات الغربية تحديات مع طلابها المناصرين لفلسطين، في حين أنّ الشركات بعيدة عن هذا الأمر، إذ إنّ الجيل الشاب المناصر للفلسطينيين لم يدخل سوق العمل بعد. بمعنى آخر، نحن لا نعلم ماذا سيكون تأثير هذا الجيل عندما يدخل سوق العمل وينخرط في العمل السياسي. وأظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «كوينيبياك» في 17 من الشهر نفسه وشمل 1737 شخصاً بالغاً أنّ 51 في المئة من الناخبين الأميركيين دون سنّ الـ 35 عاماً لا يؤيدون إرسال أسلحة ومعدات عسكرية إلى إسرائيل «ردّاً على هجوم حماس» في حين أنّ 77 في المئة من أولئك الذين يبلغون 50 عاماً أو أكثر يوافقون على ذلك. كذلك، وجد استطلاع أجرته شركة Generation Lab في 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، شمل 978 طالباً جامعياً أنّ 48 في المئة منهم لا يلقون اللوم في هجمات 7 تشرين الأوّل على «حماس»، بينما ألقت 12 في المئة اللوم على حكومات الشرق الأوسط الأخرى، و11 في المئة حمّلوا المسؤولية لإسرائيل، في الوقت الذي رأت فيه نسبة الـ 25 في المئة المتبقية أن اللوم يجب أن يُلقى على فريق آخر. ووجد أحدث استطلاع أجرته جامعة «هارفرد» أنّه على الرغم من أن مروحة واسعة من الأميركيين تدعم إسرائيل (84 في المئة) وردها على هجوم «حماس» (88 في المئة)، فإنّ وجهات النظر هذه تختلف إلى حدٍّ كبير من جيل إلى جيل.
بناءً على كلّ ما سبق، صار يمكن فهم السبب خلف التظاهرات الكبيرة التي حدثت وتحدث في واشنطن ونيويورك وتورونتو وبرلين وباريس وغيرها من المدن الأجنبية. نزل الشباب إلى الساحات بمئات الآلاف، من مختلف الأعراق والمجموعات والانتماءات، يصرخون ويهتفون لإيقاف المجازر والمطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار. وهذا أحد أهم ارتدادات عملية «طوفان الأقصى» التي أعادت الزخم إلى القضية الفلسطينية، ودمجتها من دون مواربة مع قضايا جيل الشباب.