الثبات ـ دولي
تواجه الولايات المتحدة بمؤسساتها المختلفة ووكالاتها الفيدرالية المتعددة خطر الشلل الكامل في ظل الخلاف القائم بين الجمهوريين أنفسهم من جهة، والديمقراطيين من ناحية أخرى، حول مقدار الأموال التي يجب أن تنفقها الحكومة في العام المالي المقبل.
يدعم الجمهوريون اليمينيون المتشددون خفض الميزانية الإجمالية إلى نحو 1.4 تريليون دولار، وهو أقل من 1.6 تريليون دولار التي كان رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي (جمهوري من كاليفورنيا) والرئيس جو بايدن في وقت سابق من هذا العام قد اتفقا عليها، وهذا الاتفاق كان من المفترض أن يمنع الوصول إلى حافة الهاوية.
وما يزيد الطين بلة أن أغلبية الجمهوريين لا يريدون أن يتضمن أي مشروع قانون قصير الأجل مليارات الدولارات التي يحتاجها البيت الأبيض ومجلس الشيوخ للمساعدات الأوكرانية والإغاثة من الكوارث الطبيعية في الولايات المتحدة.
ولهذه الغاية، منع المشرعون اليمينيون المتطرفون مجلس النواب الأسبوع الماضي من اعتماد إجراء قصير الأجل من شأنه أن يحافظ على الإنفاق الفيدرالي عند مستوياته الحالية ويكسب المزيد من الوقت للحزبين للتوصل إلى ترتيب طويل الأجل.
في المقابل، يقف الديمقراطيون خلف إدارة بايدن، إذ دعت السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض كارين جان بيير الخميس الماضي "الجمهوريين المتطرفين في مجلس النواب إلى التوقف عن ممارسة الألعاب السياسية بحياة الناس"، وقالت: "هناك الكثير على المحك هنا".
من هنا، وفي حال لم تنتهِ هذه الأزمة عاجلاً، ففي غضون 5 أيام فقط، من المقرر أن تغلق الحكومة الأميركية أبوابها، إذ إن المهل الزمنية لقوانين الإنفاق الحالية تنتهي في 30 أيلول/سبتمبر الجاري، أي نهاية السنة المالية للحكومة 2023، ما يطلق العنان لمصاعب مالية حقيقية وواسعة النطاق على الأسر والعمال والشركات الأميركية.
ماذا يعني مفهوم إغلاق أبواب الحكومة؟
عملياً، يتم تمويل الحكومة عادة من خلال 12 مشروع قوانين مخصصات سنوية، يغطي كل منها وكالات أو مجموعات مختلفة من الوكالات. وفي السنوات الأخيرة، تم جمع بعض أو كل مشاريع القوانين الـ12 في حزمة "شاملة" واحدة، وتمت الموافقة عليها معاً.
وبناء عليه، فإن أي جزء من الحكومة الأميركية لم يحظَ بتمرير مشروع قانون الاعتمادات الخاصة به، وبالتالي توقيعه ليصبح قانوناً بحلول منتصف ليل 1 تشرين الأول/أكتوبر -بداية السنة المالية المقبلة 2024- يمكن أن يتعطّل ويصاب بالشلل. وفي أحسن الأحوال، سيحدث شلل جزئي إذا تمّ سنّ بعض مشاريع القوانين وليس كلها.
وتبعاً لذلك، فإن الحكومة بمعظمها لا تستطيع أثناء فترة الإغلاق إنفاق الأموال، ما يعني أن مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين لن يحصلوا على رواتبهم في الوقت المناسب، إضافة إلى أن المرافق ستُغلق، ولن تصرف مدفوعات قسائم الطعام للفقراء.
ما تداعيات إغلاق أبواب الحكومة الأميركية؟
في الواقع، أثبت الجمهوريون اليمينيون المتطرفون أنهم على استعداد لاستخدام المواعيد النهائية المحورية -والتهديد بوقوع كارثة اقتصادية- لانتزاع تنازلات سياسية من بايدن. وفي بعض الأحيان، للضغط على قادة حزبهم.
وبغياب أي حلّ في الأفق، كما يبدو، هناك احتمالات متزايدة بأن تكون البلاد على بعد نحو أسبوع أمام الإغلاق الحادي والعشرين منذ عام 1977، عندما غيّرت الولايات المتحدة بداية سنتها المالية إلى 1 تشرين الأول/أكتوبر.
وبناء على ذلك، سيتوقف الملايين من الموظفين الفيدراليين وأعضاء الخدمة العسكرية النشطين عن تلقي رواتبهم، وسيجري إغلاق بعض المتنزهات الوطنية، وهذا يسري بدوره على المتاحف. ومن المرجح أيضاً أن تشهد المطارات في جميع أنحاء البلاد اضطرابات وتأخيرات جديدة.
كذلك، قد لا يتمكن كبار السن الأميركيين من الحصول على بطاقات Medicare جديدة أو معالجة بعض المشكلات الأخرى المتعلقة بمزاياهم حتى يتم استئناف التمويل الفيدرالي.
وفي علامة مشؤومة، اتخذت إدارة بايدن الجمعة الفائتة الخطوات الأولى لإعداد الوكالات الحكومية لتوقف محتمل، وفقاً لمسؤول كبير في الإدارة الأميركية. ولهذا، طلب مكتب الإدارة والميزانية في البيت الأبيض من القادة الفيدراليين تحديث مخططاتهم المعقدة حول كيفية عملهم إذا جفّت الأموال، فيما قام المكتب بإعداد مسودة اتصال يمكنهم استخدامها لإخطار الموظفين بالوضع.
والجدير بالذكر أن إدارة بايدن كانت قد حذرت من وقف بعض عمليات التفتيش الفيدرالية التي تضمن سلامة الأغذية وتمنع إطلاق المواد الكيميائية الخطرة في مياه الشرب. وإذا وقع الإغلاق، سيتجمّد حينها العمل بالأبحاث الفيدرالية حول علاجات السرطان وغيرها من العلاجات المبتكرة، وسيجري إقفال بعض مكاتب الجوازات إذا كانت موجودة في المباني الحكومية المتضررة، ما قد يعرقل خطط بعض الأميركيين للسفر الدولي.
وبناء عليه، ومع مرور كل يوم، ستستنزف واشنطن بشكل أكبر برامج شبكة الأمان الفيدرالية التي تنقل أموالها غير المستخدمة من السنوات الماضية. في نهاية المطاف، قد لا تتمكن الحكومة من توفير رعاية الأطفال أو المساعدة على صعيد التغذية أو قسائم السكن أو المساعدات المالية الجامعية لبعض الأسر الفقيرة. وكلما طال أمد الإغلاق، كانت الضربة -التي يمكن أن توجه في نهاية المطاف إلى الاقتصاد الذي يتأرجح لأكثر من عام على حافة الركود-أكبر.
وتعقيباً على ذلك، قالت جاكلين سيمون، مديرة السياسات في الاتحاد الأميركي لموظفي الحكومة، وهو أكبر اتحاد للعمال الفيدراليين، "إن الضربة الأولى الأشد وقعاً ستقع على عاتق نحو 2.2 مليون موظف فيدرالي لن يتلقوا رواتبهم عندما تنقضي الاعتمادات".
ماذا عن التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية؟
في الحقيقة، ومع أن التأثيرات الاقتصادية الدقيقة المترتبة على الإغلاق قد لا تكون واضحة على الفور، لأن بعض المسؤولين الفيدراليين الذين ينتجون وينشرون البيانات حول التضخم والبطالة، من المرجح أن يتوقفوا عن العمل أيضاً، لكن تأخر التمويل أكثر من بضعة أسابيع -علاوة على ارتفاع أسعار الفائدة وغيرها من الاضطرابات الاقتصادية- يمكن أن يؤدي إلى "ضربة قوية للنمو"، كما توقع مارك زاندي، كبير الاقتصاديين في وكالة موديز أناليتيكس. وأضاف: "لا شيء من هذا مفيد للاقتصاد".
إلى جانب ذلك، وبعد عامين من موافقة المشرعين على مشروع قانون من الحزبين لتجديد شباب الاقتصاد وتحسين البنية التحتية للبلاد، فإن الفشل في تمويل الحكومة سيجعلها غير قادرة مؤقتاً على الموافقة على بعض المشاريع لتحسين الطرق والجسور والأنابيب والموانئ واتصالات الإنترنت في البلاد.
وستبطئ الولايات المتحدة جهودها لتفتيش أماكن العمل بحثاً عن مخاطر تتعلق بالسلامة، وفقاً للبيت الأبيض، فيما لن تتمكن الحكومة من معالجة الطلبات الجديدة للحصول على قروض للشركات الصغيرة المتعطشة للسيولة. كذلك، سوف تواجه الوكالات الفيدرالية تحديات متصاعدة في توفير الدعم الاقتصادي الحاسم للأميركيين الذين يتعرضون لضغوط مالية.
من هنا، أشارت شارون باروت، رئيسة مركز الميزانية وأولويات السياسة ذي التوجه اليساري، إلى حالة عدم اليقين، لأنها اعترفت بأن ملايين الأسر قد تكون معرضة للخطر إذا تسبب تقاعس الكونغرس في إغلاق حكومي طويل الأمد.
إضافة إلى ما تقدم، سيعود الإغلاق بالضرر أيضاً على أحد أهم برامج المساعدات –مخصص للأغذية والخضراوات للنساء والرضع والأطفال وهو معروف باسم WIC– الأمر الذي قد يعرّض ما يقارب 7 ملايين من النساء الحوامل وبعد الولادة والرضّع والأطفال حتى سن الخامسة لخطر خفض الإعانات، ما يجعلهم جائعين.
وحتى لو قام الكونغرس بتمويل الحكومة في الوقت المناسب، فمن غير المتوقع أن يقوم المشرعون بتجديد تمويل حقبة الوباء الذي عزز برامج رعاية الأطفال. ولهذه الغاية، يحذر الخبراء من أن ذلك قد يؤدي إلى إغلاق 70 ألف مركز لرعاية الأطفال، أي ما مجموعه 1 من كل 3 مراكز على المستوى الوطني، بدءاً من الشهر المقبل.
هل تتضرر المؤسسات الأمنية من الإغلاق؟
في الحقيقة، وفي حالة الإغلاق، سيدير ما يقارب 1.3 مليون جندي في الخدمة الفعلية في البلاد أيضاً مراكزهم من دون أجر. ومع ذلك، بمجرد استئناف التمويل الفيدرالي، يتعين على الحكومة بموجب القانون سداد رواتب الموظفين الفيدراليين والعسكريين، فضلاً عن أنه لن يتم تعويض المقاولين الفيدراليين عن الوقت الضائع.
وبينما يحتفظ البنتاغون بمجال واسع لمواصلة البرامج باسم الأمن القومي، أشار كبار مسؤولي الدفاع في الأيام الأخيرة إلى أن إغلاق البنتاغون الشهر المقبل قد يكون مزعجاً بشكل غير عادي، حتى إنه يعوق قدرتهم على تقديم بعض المساعدات العسكرية الأجنبية. ويتضمن ذلك توريد مواد مختارة إلى أوكرانيا، وهو ما يعارضه بعض الجمهوريين في مجلس النواب.
إضافةً إلى ذلك، ستتأثر الإدارات السياسية بالإغلاق، وهو ما أشارت إليه ميرا ريسنيك، نائبة مساعد وزير الخارجية لشؤون الأمن الإقليمي، التي شددت في الكابيتول هيل على أن عمليات الإغلاق السابقة جعلت وكالتها غير قادرة على معالجة المبيعات العسكرية الأجنبية الجديدة لأي شريك إلا في حالات الطوارئ، وناشدت المشرعين بالقول: "هذا شيء نود تجنبه".
في المحصلة، إن انقطاع التمويل سيشكل انهياراً أساسياً في واشنطن المنقسمة والمتعنتة، وسيضرّ بالنمو الاقتصادي، وهو ما نبهت منه ديان كريسويل، مديرة وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية التي لخصت المشهد بالقول: "العواقب قد تكون وخيمة".