الثبات - علوم اسلامية
الحكم الشرعي
الإصرار على إقامة الجماعة رغم قرار إيقافها
بسبب فيروس كورونا
كثرت النقاشات في الأيام الأخيرة عن هذه المسألة وتكلم فيها من يعلم ومن لايعلم، وهذا المقال وإن كان طويلاً إلا انه في تفصيل ورد شافي عن المسألة.
تعاني كثير من بلدان العالم في هذه الآونة من وباء فيروس كورونا "كوفيد-19" (COVID-19)؛ وهو: نوع من الفيروسات التاجيَّة التي تسبب الأمراض للإنسان والحيوان، ينتشر بسرعة فائقة عن طريق العدوى بين الأشخاص، سواء عن طريق الجهاز التنفسي والرذاذ المتناثر من الأنف أو الفم المحمَّل بالفيروس عند السعال والعطس، أو عن طريق المخالطة وملامسة المرضى والأسطح المحيطة بهم دون اتخاذ تدابير الوقاية والنظافة، ولذلك يجب الابتعاد عن الشخص المريض بمسافة تزيد على متر واحد (3 أقدام)، وقد انتشر هذا الوباء في نحو من 160 دولة، وأصيب به أكثر من مائتي ألف مصاب، مات منهم ما يزيد على ثمانية آلاف شخص، وقد أثَّرت العدوى في ارتفاع أعداد الإصابات وتضاعف حالات الوفيات؛ حتى أعلنت منظمة الصحة العالمية (WHO) حالة الطوارئ الصحية العامة باعتباره وباءًا عالميًّا، وأفادت أن مدة حضانة الجسم لهذا الفيروس تصل إلى 14 يومًا، يكون الإنسان خلالها حاملًا للفيروس ومصدرًا لانتقاله للآخرين، وتوصلت دراسة مستخلصة من 22 بحثًا طبيًّا إلى أن مدة بقاء الفيروس على الأسطح التي لا يتم تطهيرها باستمرار تصل إلى 9 أيام، وهناك دراسات طبية تؤكد إمكانية نقل العدوى عن طريق أشخاص ظهرت عليهم أعراض الفيروس الخفيفة، أو لم تظهر عليهم أعراضه أصلًا.
ولا يجوز للمسلم أن يعرض عن حقائق العلم ومستجداته؛ بدعوى الاكتفاء بالكتاب والسنة؛ فإن الإسلام هو دين العلم؛ رفع شأنه وأكرم أهله، ونزلت أُولَى آياتِه أمرًا بقراءة الخلقِ الدالِّ على عظمة الخالق: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، تأكيدًا على التوافق بين الخلق والوحي، واتساق الكتاب المنظور مع الكتاب المسطور، وإشارةً إلى أن مصدرَي المعرفة هما: الوجود والوحي، وكلاهما من الله: خلقًا وأمرًا؛ قال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 7]، وكما أنه لا تعارض بين آيات القرآن وحقائق الأكوان، فكذلك لا تناقض بين الأحكام الشرعية والثوابت العلمية.
والقرآن الكريم هو كلمة الله الأخيرة للعالمين، وهو العهد الأخير الذي عهد الله به إلى خلقه؛ ولذلك فهو يصلح لكل الأسقف المعرفية، ويتناغم مع جميع العلوم الكونية، ولذلك امتلأت آياته بالحث على النظر والدعوة إلى العلم واكتساب المعرفة، ومن هنا كان المسلمون مأمورين بتدبر الوحي الشريف؛ كتابًا وسنةً؛ لفهم المقاصد الشرعية، وتحقيق المصالح المرعية، وفي سبيل ذلك وجب أن يكون المسلم مدركًا لشانه، عالمًا بزمانه، وأن يفهم من واقعه ومصالحه المرعية ما يمكنه من تطبيق الأحكام الفقهية بما يحقق غاياتها المقاصدية، ومن هنا جاء الفرق بين الحكم الشرعي الثابت، وبين الفتوى التي تحكمها القواعد الشرعية الكلية ومصالح الخلق المرعية، والتي يمكن أن تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص.
والعدوى -كما يعرفها المتخصصون- هي: انتقال الكائن المسبب لها من مصدره إلى الشخص المعرض للإصابة، وإحداث إصابة بالأنسجة قد تظهر في صورة مرضية (أعراض) أو لا.
وقد تكلم علماء المسلمين وفقهاؤهم عن العدوى، وعدَّدوا ما عرفوه في عصورهم من الأمراض الوبائية؛ كالجُذام، والجرب، والجدري، ونحو ذلك؛ قال الإمام الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن" (9/ 2979، ط. مكتبة نزار الباز): [العدوى: مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، يقال: أعدى فلانٌ فلانًا من خلقه أو من علة به، على ما يذهب إليه المتطببة في علل سبع: الجذام، والجرب، والجدري، والحصبة، والبخر، والرمد، والأمراض الوبائية] اهـ.
وقد سبقت الشريعة الإسلامية إلى نظم الوقاية من الأمراض المعدية والاحتراز من تفشيها وانتشارها؛ رعايةً للمصالح، ودفعًا للأذى، ورفعًا للحرج، حتى لا تصبح الأمراض وباءًا يضرُّ بالناس ويهدد المجتمعات، فأرست بذلك مبادئ الحجر الصحي، وقررت وجوب الأخذ بالإجراءات الوقائية في حالة تفشي الأوبئة وانتشار الأمراض العامة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» أخرجه البخاري في "صحيحه". وفي رواية: «اتَّقُوا الْمَجْذُومَ كَمَا يُتَّقَى الْأَسَدُ» أخرجه ابن وهب في "جامعه"، وأبو نعيم في "الطب النبوي"، وابن بشران في "أماليه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ» متفقٌ عليه.
وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه رضي الله عنه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجعْ» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
قال الإمام زين الدين المناوي في "فيض القدير" (1/ 138، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [أي: احذروا مخالطته وتجنبوا قربه وفروا منه كفراركم من الأسود الضارية والسباع العادية] اهـ.
وإنما جاء النهي عن المخالطة آنذاك لمريض الجذام: لأنه كان "من العلل المعدية بحسب العادة الجارية عند بعض الناس"؛ كما يقول العلامة الكماخي الحنفي في "المهيأ في كشف أسرار الموطأ" (2/ 437، ط. دار الحديث)، فيدخل فيه ما كان في معناه من الأمراض المُعدية، ويكون ذلك أصلًا في نفي كل ما يحصل به الأذى، أو تنتقل به العدوى.
ولذلك نص العلماء على سقوط صلاة الجمعة والجماعة عن من كان بهم أذًى؛ لأن مشاركتهم المسلمين واختلاطهم بهم سبب للأذى وإلحاق للضرر، وإذا جاز أن يفرق بين المريض وزوجته إذا تجذَّم فأحرى أن يفرَّق بينه وبين الناس في الجماعات، بل نصوا على أنه يجب على الإمام عزل أصحاب الأمراض المعدية عن الناس؛ حتى لا يمتد الأذى وتتفشَّى العدوى:
فعند الحنفية: جعلوا أكل الثوم والبصل قبل الجمعة نسيانًا أو لعذرٍ سببًا في سقوط الجمعة على الآكل؛ لِمَا يترتب على مجيئه إلى الجماعة من الأذى، ولا يخفى على عاقل أن أذى العدوى بالمرض المؤدي إلى الوفاة أشد من التأذي بالرائحة الكريهة:
قال الإمام الحافظ العيني الحنفي في "عمدة القاري" (1/ 148، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» صريحٌ على أن كل هذه الأشياء عذر في التخلف عن الجماعة، وأيضًا ههنا علتان: إحداهما: أذى المسلمين، والثانية: أذى الملائكة، فبالنظر إلى العلة الأولى يُعذَر في ترك الجماعة وحضور المسجد، وبالنظر إلى الثانية يُعذَر في ترك حضور المسجد، ولو كان وحده] اهـ.
ونقله العلامة ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" (1/ 661-662، ط. دار الفكر) ثم قال عقبه: [أقول: كونه يُعذَر بذلك ينبغي تقييدُه بما إذا أكل ذلك بعذر أو أكل ناسيًا قرب دخول وقت الصلاة؛ لئلا يكون مباشرًا لما يقطعه عن الجماعة بصنعه] اهـ.
بل نص الحنفية على وجوب عزل أصحاب الأمراض المعدية عن الناس؛ حسمًا لمادة الأذى، وسدًّا لذريعة العدوى والضرر؛ قال العلامة ابن نُجيم الحنفي في "البحر الرائق" (6/ 38، ط. دار الكتاب الإسلامي): [نقل غيرُ واحد من الأئمة أنه يجب على السلطان أو نائبه أن يخرج من به نحو جذام أو برص من بين أظهر الناس، ويفرد لهم محلًّا خارج البلد، وينفق على فقرائهم من بيت المال] اهـ.
وعند المالكية: نصوا على أن المصابين بالأمراض المؤذية بالعدوى لا يصلون الجمعة مع الناس وإن كثروا؛ لأن دفع ضرر العدوى مقدم على جلب مصلحة حضور الجماعة، وأنه يفرق بين المريض وزوجته إذا تجذَّم؛ فأحرى أن يفرَّق بينه وبين الناس في الصلاة، وأفتوا بإبعاده وعزله اتقاءً لأذاه ودرءًا لعدواه:
قال العلامة العبدري المواق المالكي في "التاج والإكليل" (2/ 555، ط. دار الكتب العلمية): [قال سحنون: لا جمعة عليهم وإن كثروا، ولهم أن يجمعوا ظهرًا بغير أذان في موضعهم، ولا يصلون الجمعة مع الناس. ابن يونس: لأن في حضورهم الجمعة إضرارًا بالناس، وأوجب صلى الله عليه وآله وسلم غسل الجمعة على الناس؛ لأنهم كانوا يأتون إليها من أعمالهم فيؤذي بعضهم بعضًا بنَتَنِ أعراقهم؛ فالجذام أشد، ومنعهم يوم الجمعة أولى؛ لاجتماع الناس، وكما جاز أن يفرق بينه وبين زوجته إذا تجذَّم كان أحرى أن يفرق بينه وبين الناس في الجمعة، فقول سحنون أبْيَن، انتهى نص ابن يونس، وكذا المازري أيضا رشَّح قول سحنون] اهـ.
وقال الإمام الرعيني الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 184، ط. دار الفكر): [ففي القياس: أن كل من يتأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذَرِبَ اللسان سفيهًا مستطيلًا، أو كان ذا رائحة لا تؤلمه لسوء صناعته، أو عاهة مؤذية كالجذام وشبه أذى، وكل ما يتأذى به الناس، إذا وجد في أحد جيران المسجد وأرادوا إخراجه عن المسجد وإبعاده عنهم كان ذلك لهم؛ ما كانت العلة موجودة فيه، حتى تزول، فإذا زالت بالعافية، أو بتوبة، أو بأي وجهٍ زالت: كان له مراجعة المسجد، وقد شاهدتُ شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام رحمه الله أفتى في رجلٍ تشكّاه جيرانه وأثبتوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده؛ فأفتى بإخراجه عن المسجد وإبعاده، وأن لا يشهد معهم الصلاة] اهـ.
وعند الشافعية: نصوا على منع ذوي الأمراض المعدية من الجماعة والمسجد؛ لئلا يُتأذّى بهم:
قال العلامة ابن حجر الهيتمي في "المنهاج القويم" (ص: 150، ط. دار الكتب العلمية): [وكذا نحو المجذوم والأبرص، ومِن ثَم قال العلماء: إنهما يمنعان من المسجد وصلاة الجماعة واختلاطهما بالناس] اهـ، بل نص على أن هذا المنع على الوجوب؛ خشية الضرر؛ فقال في "الفتاوى الكبرى" (1/ 213، ط. المكتبة الإسلامية): [سبب المنع في نحو المجذوم: خشية ضرره، وحينئذ فيكون المنعُ واجبًا فيه] اهـ.
وعند الحنابلة: قالوا بعدم حضور الجماعة لمَن يتعدَّى أذى مرضهم لغيرهم، ولو في غير مسجد أو صلاة:
قال العلامة الحجاوي المقدسي الحنبلي في "الإقناع" (1/ 176، ط. دار المعرفة): [والمراد: حضور الجماعة حتى ولو في غير مسجد، أو غير صلاة.. وكذا من به برص أو جذام يُتَأذَّى به] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (6/ 126، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا يجوز للجُذَماء مخالطةُ الأصحَّاءِ عمومًا، ولا مخالطةُ أحدٍ مُعيَّنٍ صحيحٍ إلا بإذنه، وعلى ولاة الأمور منعُهم من مخالطة الأصحاء؛ بأن يُسكَنُوا في مكانٍ مُفرَد لهم ونحو ذلك، وإذا امتنع وليُّ الأمر من ذلك أو المجذومُ: أَثِمَ، وإذا أصرَّ على ترك الواجب مع علمه به فَسَقَ)، قاله في "الاختيارات"، وقال: كما جاءت به سنةُ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائِه، وكما ذكر العلماءُ] اهـ.
والداعي إلى الحجر الصحي ومنع التجمعات البشرية من قِبل الجهات المختصة هو هذا المرض الوبائي، والخوف من أذاه، والحد من انتشار عدواه، وهو أمرٌ اعتبره الشرع الشريف؛ حيث أسقط الجماعة عن المسلمين حال الخوف أو المرض أو ما كان في معناهما:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ تِلْكَ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا» قَالُوا: مَا عُذْرُهُ؟ قَالَ: «خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ» أخرجه أبو داود والدارقطني في "سننهما"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "السنن الصغير"، و"السنن الكبرى"، و "معرفة السنن والآثار" قال الإمام البيهقي: "وَمَا كَانَ مِنَ الْأَعْذَارِ فِي مَعْنَاهَا فَلَهُ حُكْمُهُمَا".
وذُكِر لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهما، وكان بدريًّا، مرض في يوم جمعة، فركب إليه بعد أن تعالى النهار واقتربت الجمعة، وترك الجمعة" أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه"، قال الإمام ابن عبد البر المالكي في "التمهيد" (16/ 244، ط. أوقاف المغرب): [وأما قوله في الحديث «مِن غَيرِ عُذْرٍ»: فالعذر يتسع القولُ فيه؛ وجملته: كل مانعٍ حائلٍ بينه وبين الجمعة مما يتأذى به ويخاف عدوانه، أو يبطل بذلك فرضًا لا بدل منه؛ فمن ذلك السلطان الجائر يظلم، والمطر الوابل المتصل، والمرض الحابس، وما كان مثل ذلك] اهـ.
وقد نص الفقهاء على أن من فاتتهم الجمعة أو الجماعة لعذر: فإن لهم أجرها ولا يُحرَمون فضلها:
قال الإمام بدر الدين العيني الحنفي في "عمدة القاري" (6/ 196، ط. دار إحياء التراث العربي): [وكذا إن كان له مريض يخشى عليه الموت، وقد زار ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ابنًا لسعيد بن زيد رضي الله عنه ذُكر له شكواه، فأتاه إلى العقيق وترك الجمعة، وهو مذهب عطاء والأوزاعي.
وقال الشافعي في أمر الوالد: إذا خاف فوات نفسه. وقال عطاء: إذا استُصرِخَ على أبيك يوم الجمعة والإمام يخطب فقم إليه واترك الجمعة. وقال الحسن: يرخص ترك الجمعة للخائف. وقال مالك في "الواضحة": وليس على المريض والصحيح الفاني جمعة. وقال أبو مجلز: إذا اشتكى بطنه لا يأتي الجمعة] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد المالكي في "البيان والتحصيل" (1/ 502، ط. دار الغرب الإسلامي): [والمشهور في الْمَرْضَى والمسجونين: أنهم يجمعون؛ لأنهم مغلوبون على ترك الجمعة.. وقال ابن القاسم في المجموعة: إنهم لا يعيدون، وقاله أصبغ في المتخلفين من غير عذر، وهو الأظهر، إذ قد قيل: إنهم يجمعون؛ لأنهم وإن كانوا تعذَّروا في ترك الجمعة: فلا يحرموا فضل الجماعة] اهـ.
وقال الإمام تقي الدين الحصني الشافعي في "كفاية الأخيار" (ص: 142، ط. دار الخير): [فلا تجب الجمعة على مريض ومن في معناه؛ كالجوع، والعطش، والعري، والخوف من الظلمة.. وحجة عدم الوجوب على المريض الحديث السابق، والباقي بالقياس عليه، وفي معنى المريض: من به إسهال ولا يقدر على ضبط نفسه ويخشى تلويث المسجد، ودخوله المسجد والحالة هذه حرام؛ صرح به الرافعي في "كتاب الشهادة"، وقد صرح المتولي بسقوط الجمعة عنه] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 300، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله (ويُعذَر في ترك الجمعة والجماعة المريض): بلا نزاع، ويُعذَر أيضا في تركهما لخوف حدوث المرض] اهـ.
وإذا كان هذا فيما يتعلق بالمرض والخوف منه، فما بالنا والأمر يتعلق بالحفاظ على نفوس الناس وأرواحهم؛ فإن العالم كله أصبح يواجه وباءً قاتلًا ذهب ضحيتَه آلافُ البشر، وانتشر في عشرات البلدان!
والدُّوَل مأمورة بتحقيق الأمن والسلام لمواطنيها ومسؤولة عن ذلك، وقد خوَّل الشرع لولاة الأمر في سبيل ذلك اتخاذَ الوسائل والإجراءات اللازمة لذلك؛ إذ السلطة والمسؤولية وجهان لعملة واحدة، وتصرف الحاكم على رعيته منوط بالمصلحة التي يسعى فيها لتطبيق المقاصد الكلية والمصالح المرعية.
أما الإعراض عن كل هذه الحقائق، بدعوى التوكل على رب الخلائق، والتعامي عن خطر هذا الوباء، زعمًا أنه من شائعات الأعداء، فهو استهانة بالنفوس واستخفاف بالعقول، ومخالفةٌ للمعقول والمنقول، وليس إنكار الواقع من شأن العقلاء، ولا المكابرة فيه مما يدفع البلاء، ولا يجوز إلقاء الناس في المخاطر، بدعوى إقامة الشعائر، بل واجب الوقت على العلماء أن يقفوا أمام انتشار البلاء، حتى لا يستفحل الداء فيعجز الدواء، وأن يتضرعوا إلى الله بالدعاء، والإخبات والرجاء، ليكشف عن البريَّة هذه البَلِيّة، ويقي الناس شر الباس. ويجب اتخاذ كافة الوسائل للحفاظ على نفوس الناس، باتباع تعليمات الجهات المسؤولة وأهل الاختصاص؛ من الأطباء ونحوهم، في كيفية التعامل مع هذا المرض الوبائي، والالتزام بما يوصون به من توجيهات وقائية أو علاجية؛ إذ هم أهل الذكر الذين تجب استشارتهم في هذا الشأن، وقد أمرنا الله بالرجوع لأهل الذكر في قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
أمَّا الإصرار على إقامة الجمعة والجماعات، والتجمع في المساجد والندوات، وتحريض الناس على مخالفة التعليمات، بدعوى أن فيروس كورونا حرب شائعات من أعداء الإسلام: فهو غيابٌ عن الواقع، وإيقاع للناس في المشقة والحرج، وإلقاء بنفوسهم إلى التهلكة، والداعون إلى ذلك ساعون في الإضرار بالناس، ومسؤولون عن ما قد يصيب المواطنين بسبب ذلك؛ من أمراض ومهالك.
وقد نعى الشرع على من قال على الله تعالى بغير علم، وجعل ذلك قرين الشرك؛ فقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].
ودعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على من أوقع الناس في الحرج والأذى، وتسبب في قتلهم بجهله وضلال فتواه، دون أن يدرك مواطن الرخصة في الدين، أو يسأل أهل العلم المتخصصين، الذي يرشدون الناس إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم ونجاحهم:
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قالَ: "خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر، فشجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُخبر بذلك، فقال: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ؛ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ -شَكَّ مُوسَى- علَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» أخرجه الإمام أبو داود والنسائي والبيهقي والدارقطني في "سننهم" واللفظ لأبي داود. وهو عند الإمام أحمد في "المسند"، وأبي داود وابن ماجه في "السنن"، وابن حبان وابن خزيمة في "صحيحيهما"، والحاكم في "المستدرك" وصححه: من حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
فقد جعلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث قَتَلةً له؛ لأنهم أفتوا بغير علم، فكانت فتواهم سببَ موته، وفي ذلك من الوعيد الشديد، ما لو وعاه دُعاة التشديد، لما تجرؤوا على الفتوى بغير علم.
قال الإمام أبو سليمان الخطابي في "معالم السنن" (1/ 104، ط. المطبعة العلمية): [في هذا الحديث من العلم: أنه عابهم بالفتوى بغير علم، وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم، وجعلهم في الإثم قَتَلَةً له] اهـ.
وقال العلامة ابن ملك الكرماني في "شرح مصابيح السنة" (1/ 334، ط. إدارة الثقافة الإسلامية): [دعا عليهم؛ لكونهم مقصِّرين في التأمل في النص، وهو قوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6]] اهـ.
وحذَّر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مَن أوْقع أُمَّتَه في المشقة، ودعا عليه أن يُوقِعَ اللهُ تعالى به ما أوقع فيه أُمَّةَ الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الجزاء من جنس العمل:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (12/ 213، ط. دار إحياء التراث العربي): [هذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم، وقد تظاهرت الأحاديث بهذا المعنى] اهـ.
وما أبلغَ كلامَ الإمامِ الطيبي على هذا الحديث في "شرح المشكاة" (8/ 2570، ط. مكتبة الباز) وهو يشرحه شرحَ مَن سَرَتْ إليه منه أنوارُ الرحمة النبوية؛ فيدعو للأمة دعاءَ مَن يستشعر حالها، ويعيش همها، بقوله: [أقول: وهو من أبلغ ما أظهر -صلواتُ الله عليه- من الرأفة والشفقة والمرحمة على أمته، فنقول بلسان الحال: اللهم هذا أوان أن ترحم على أمة حبيبك وترأف بهم، وتنجيهم من الكرب العظيم الذي هم فيه، يا من لا إله إلا أنت العظيم الحليم، لا إله إلا أنت رب العرش العظيم، لا إله إلا أنت رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم، ويرحم الله عبدًا قال: آمينًا] اهـ. اللهم آمين.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، مَنْ ضَارَّ ضَارَّهُ اللهُ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللهُ عَلَيْهِ» رواه الدارقطني والبيهقي في "السنن"، والحاكم في "المستدرك" وصححه على شرط مسلم، والدينوري في "المجالسة".
وعن أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "مَا خُيِّرَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا" متفقٌ عليه. قال القاضي عياض المالكي في "إكمال المُعلم" (7/ 291): [فيه الأخذُ بالأيسر والأرفق، وتركُ التكلف، وطلبُ الْمُطَاق] اهـ.
ومخالفة التعليمات الصحية والإجراءات الوقائية، تحت دعوى الحرص على إقامة الواجبات الدينية والفروض الإسلامية: مردود بأن حفظ النفس من أهم المقاصد الكلية، وآكد الفروض الشرعية، وهي في مقدمة الكليات الخمسة الضرورية، التي جاءت بحفظها كل الشرائع السماوية.
قال حجة الإسلام الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 174، ط. دار الكتب العلمية): [مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة] اهـ.
وبالإضافة إلى ما في هذه التصرفات من ضرر مخوف وخطر متوقع على المجتمع، فإن فيها محظورًا شرعيًّا آخر؛ لأن إقامة الجمعة من الولايات التي جعلتها الشريعة مِن شأن السلطان، بحيث إنّ إذنَه معتَبَرٌ في إقامتها؛ فإن صلاة الجمعة مِن لدن عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصور الصحابة والتابعين ومَن بعدهم مِن الأئمة المتبوعين لم تكن تقام إلا بإذن السلطان، ونصوص الصحابة والتابعين على أن إقامة الجمعة مِن شأن الإمام الذي لا يُنازَعُ فيه، وبذلك جَرَتِ السُّنّةُ وعليه انعقد الإجماع، غير أن بعضَهم يجعله شرطَ صحة، وبعضُهم يجعله حقًا أدبيًّا لولي الأمر تصح الصلاة بدونه، واختلفوا فيما إذا حال حائلٌ دون إذنه؛ كبُعْدٍ وعَزْلٍ ونحوهما؛ فالقائلون بعدم الاشتراط نظروا إلى الحوادث الطارئة، وعُسْرِ الاستئذان التفصيلي في كل جمعةٍ جمعةٍ؛ ولذلك اختلفوا هل هو واجب أو مستحب، والجمهور على عدم الاشتراط وعدم الإيجاب؛ لأنه "إذا ضاق الأمرُ اتَّسَعَ"، لكنهم جميعًا لا يختلفون في أن إقامة الجمعة مِن شأن السلطان، ولا يختلفون في تحريم منازعة الإمام في حقِّ إقامتها لِمَا في ذلك من الافتيات عليه، وذلك ذريعة للفتنة:
فجاءت السنة النبوية الشريفة بمشروعية استئذان ولي الأمر في إقامة صلاة الجمعة:
فروى عبد الرزاق في "المصنف" عن معمر، عن الزهري: أن مسلمة بن عبد الملك كتب إليه: "إني في قرية فيها أموالٌ كثير، وأهلٌ وناسٌ، أفأُجَمِّعُ بهم ولستُ بأمير؟"، فكتب إليه الزهري: "إن مصعب بن عُمَيْر رضي الله عنه استأذن رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يُجَمِّع بأهل المدينة، فأذن له، فجمَّع بهم وهم يومئذ قليلٌ؛ فإن رأيتَ أن تكتب إلى هشامٍ حتى يأذن لك فافعل".
وجرى على ذلك الصحابة والتابعون والسلف الصالحون:
قال سيدنا علي كرم الله وجهه: «لا جماعةَ يومَ جمعةٍ إلّا مع الإمام» رواه ابن أبي شيبة في "المصنف".
وروى أبو أحمد بن زنجويه في كتاب "الأموال"، وابن حزم في "المحلَّى": عن أبي عبد الله رضي الله عنه -رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «الزكاةُ، والحدودُ، والفيءُ، والجمعةُ: إلى السلطان».
قال الإمام الطحاوي الحنفي في "مختصر اختلاف العلماء" (3/ 299، ط. دار البشائر): [ولا نعلَم عن أحد مِن الصحابة خلافَه] اهـ.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف"، وابن زنجويه في "الأموال" عن عبد الله بن مُحَيْرِيزٍ قال: "الحدودُ، والفيءُ، والجمعةُ، والزكاةُ: إلى السلطان".
وروى ابن زنجويه في "الأموال" عن الحسن البصري، أنه كان يقول: "أربعٌ لا تَصْلُحُ إلا بإمام: الحدود، والقضاء، والجمعة، والزكاة".
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" عن عطاءٍ الخُرَاساني، قال: "إلى السلطانِ: الزكاةُ، والجمعةُ، والحدودُ".
ونقل الإمام القرطبي في أحكام القرآن (5/ 259، ط. دار الكتب المصرية) عن الإمام سهل بن عبد الله التُّستَري رحمه الله تعالى أنه قال: [أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام، والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد] اهـ.
وقال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (2/ 25، ط. دار المعرفة): [قال: والسلطان من شرائط الجمعة عندنا.. ولنا: ما روينا من حديث جابر رضي الله عنه: «وَلَهُ إمَامٌ جَائِرٌ أَوْ عَادِلٌ»؛ فقد شرط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمامَ لإلحاقه الوعيد بتارك الجمعة، وفي الأثر: «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ: مِنْهَا الْجُمُعَةُ»؛ ولأن الناس يتركون الجماعات لإقامة الجمعة، ولو لم يشترط فيها السلطان أدى إلى الفتنة؛ لأنه يسبق بعض الناس إلى الجامع فيقيمونها لغرض لهم وتفوت على غيرهم، وفيه من الفتنة ما لا يخفى، فيجعل مُفوَّضًا إلى الإمام الذي فُوِّض إليه أحوالُ الناس والعدل بينهم؛ لأنه أقرب إلى تسكين الفتنة] اهـ.
وقد وضح فقهاء الحنفية معنى الفتنة التي يؤدي إليها عدم إناطة الجمعة بإذن السلطان؛ وذلك من خلال شرحهم للأبعاد الاجتماعية لها وما تتميز به من مظاهر السلطة الأدبية والجاه الاجتماعي.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 261، ط. دار الكتب العلمية): [هذه صلاةٌ تُؤدَّى بجمعٍ عظيمٍ، والتقدمُ على جميع أهل المصر يُعَدُّ مِن باب الشرف وأسباب العلو والرفعة؛ فيتسارع إلى ذلك كلُّ مَن جُبِلَ على علو الهمة والميل إلى الرئاسة؛ فيقع بينهم التجاذب والتنازع، وذلك يؤدي إلى التقاتل والتقالي؛ ففُوِّضَ ذلك إلى الوالي ليقوم به أو ينصب من رآه أهلا له، فيمتنع غيره من الناس عن المنازعة؛ لما يرى من طاعة الوالي، أو خوفا من عقوبته؛ ولأنه لو لم يُفوَّضْ إلى السلطان لا يخلو: إما أن تُؤدِّيَ كلُّ طائفة حضرت الجامع؛ فيؤدي إلى تفويت فائدة الجمعة وهي اجتماع الناس لإحراز الفضيلة على الكمال، وإما أن لا تؤدى إلا مرة واحدة؛ فكانت الجمعة للأولين وتفوت عن الباقين؛ فاقتضت الحكمة أن تكون إقامتها متوجهة إلى السلطان ليقيمها بنفسه أو بنائبه عند حضور عامة أهل البلدة مع مراعاة الوقت المستحب والله أعلم] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 288، ط. وزارة الأوقاف المغربية): [ولا يختلف العلماء أن الذي يقيم الجمعةَ السلطانُ، وأن ذلك سُنّةٌ مسنونةٌ، وإنما اختلفوا عند نزول ما ذكرنا من موت الإمام، أو قتله، أو عزله، والجمعة قد جاءت..] اهـ.
وقد اتفق الفقهاء جميعًا على اشتراط إذن الإمام في إقامة صلاة الجمعة إذا كان في ترك استئذانه استهانة بولايته أو مخالفة لأمره عند إلزامه الناس بالاستئذان؛ سواء منهم من قال بوجوب إذن السلطان لإقامة الجمعة ومن قال بعدم وجوبه، وجعلوا في إقامتها مع منعه منها مشاقة له وخرقًا لأُبَّهَةِ الولاية وإظهارًا للعناد والمخالفة، وكلها معانٍ محرمة في الشريعة الإسلامية:
قال الإمام القرافي المالكي في "الفروق" (4/ 49، ط. عالم الكتب): [وبهذا يظهر أن الإمام لو قال: لا تقيموا الجمعة إلا بإذني لم يكن ذلك حكمًا، وإن كانت مسألة مختلفا فيها هل تفتقر الجمعة إلى إذن السلطان أم لا، وللناس أن يقيموا بغير إذن الإمام، إلا أن يكون في ذلك صورة المشاقة، وخرق أبهة الولاية، وإظهار العناد والمخالفة فتمنع إقامتها بغير أمره لأجل ذلك] اهـ.
على أن الخلاف في اعتبار الإذن الفعلي للسلطان في صلاة الجمعة قد يُتَصَوَّر في النظم الاجتماعية التي يستقل فيها الناس في المدن والنواحي بتعيين أئمتهم وخطبائهم؛ فإن هذه الحال ونحوها قد يُتفهَّمَ فيها كونُ إذن الحاكم بإقامة الجمعة حقًّا أدبيًّا، لا واجبًا شرعيًّا أو شرطًا حتميًّا؛ لأن عدم اعتبار الإذن لا يقتضي منازعةَ ولي الأمر حقه فيه؛ حيث إن الأعراف النظامية والاجتماعية السائدة ربما تجعل لأهل المدن والقرى نوعَ استقلالٍ وسلطانٍ في هذه الشئون، وعليه يُحمَلَ قولُ مَن لم يُوجِبْ إذن الإمام من الفقهاء.
لكن إهمال الإذن وعدم اعتباره لا يتأتَّى العملُ به -بل ولا تَصَوُّرُه- في دولة المؤسسات؛ التي تَوَزَّعَتْ فيها السلطات، وحُدِّدَت المسؤوليات، وأُقيمَتْ مختلف الهيئات على تنوع المهامّ والاختصاصات، وأصبحت للمساجد والجوامع وزارةٌ خاصّةٌ بالشؤون الدينية، تُعيِّن أئمتها وخطباءها، وتُوَجِّه وُعَّاظَها، وتنظم شئونها الإسلامية؛ فهي "وليُّ الأمر" لدور العبادة والقائمين عليها وشئون الدعوة والوعظ في البلاد، ولا ريب أن مِن أخصِّ اختصاصاتها تنظيمَ إقامة صلاة الجمعة؛ أي: أن هذا النظام المؤسَّسي يجعل إذنَ "وليّ الأمر" في إقامة صلاة الجمعة مَحَلَّ إلزامٍ والتزامٍ، ويجعل عدمَ الاعتدادِ به ومخالفتَه افتئاتًا على ولي الأمر؛ فيكون الالتزامُ بلوائح الوزارة وقراراتها واجبًا على كلِّ إمامٍ وخطيب ومسؤول عن جامع أو مسجد مِمَّن يعيش تحت ظل هذه الدولة التي تولَّتْ وزارةُ الشؤون الدينية مساجدَها وأمر دعوتِها؛ لأن العيش في النظام الاجتماعي للدولة المدنية يقتضي الالتزامَ بعقودها الاجتماعية، التي تقوم على مفاهيم فصل السلطات، وابتناء المسؤوليات على تحديد الاختصاصات، والمقابلة بين الحقوق والواجبات.
وبناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يجب على المواطنين في أفغانستان الالتزامُ بتعليمات الجهات الطبية المسؤولة التي تقضي بإغلاق الأماكن العامة من مؤسسات تعليمية واجتماعية وخدمية، وتقضي بإيقاف صلاة الجماعة والجمعة في المساجد في هذه الآونة؛ وذلك للحد من انتشار وباء فيروس كورونا الذي تم إعلانُه وباءً عالميًّا؛ حيث إنه مرض معدٍ قاتل، ينتقل بالمخالطة بين الناس وملامستهم بسهولة وسرعة، وقد يكون الإنسان مصابًا به أو حاضنًا له، دون أن يعلم بذلك أو تظهر عليه أعراضه!
وقد تقرر في قواعد الشرع أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ ولذلك شرع الإسلام نُظُمَ الوقايةِ من الأمراض والأوبئة المعدية، وأرسى مبادئ الحجر الصحي، وحث على الإجراءات الوقائية، ونهى عن مخالطة المصابين، وحمَّل ولاةَ الأمر مسؤوليةَ الرعية، وخوَّل لهم من أجل تحقيق واجبهم اتخاذَ ما فيه المصلحةُ الدينية والدنيوية، ونهى عن الافتيات عليهم ومخالفتهم، ونص الفقهاء على سقوط الجمعة والجماعة عن المجذومين ومن في حكمهم من أصحاب العدوى، وأوجبوا عزلهم عن الناس؛ سدًّا لذريعة الأذى وحسمًا لمادة الضرر، مع أخذهم ثواب الشعيرة الجماعية؛ اعتبارًا بصدق النية، ورعايةً لأعذارهم القهرية، ومكافأةً لهم على كف الأذيّة عن البرية.
والشأن في إقامة الجمعة أنها منوطة بتنظيم الإمام وإذنه العام؛ حسمًا لمادة الفتنة، وسدًّا لذريعة المنازعة؛ لما فيها من السلطة الأدبية، ومع اختلاف الفقهاء في اشتراط إذن الإمام في إقامة الجمعة، إلا أنهم اتفقوا على اشتراطه إذا كان في ترك استئذانه استهانةٌ بولايته أو افتياتٌ على سلطته.
ويجب على العلماء النظر في المآلات ومراعاة الواقع؛ حتى لا يتَّسع الخرقُ على الراقع، ولا يجوز الاستهانة بهذا الوباء، ولا التعامي عن انتشار ذلك البلاء، بل يجب التضرع والدعاء، والإخبات والرجاء، لرب الأرض والسماء، ويحرم الإصرار على إقامة الجمعة والجماعات في المساجد، تحت دعوى إقامة الشعائر والحفاظ على الفرائض، مع تحذير الجهات المختصة من ذلك، وإصدارها القرارات بمنع ذلك؛ فإن المحافظة على النفوس من أهم المقاصد الخمسة الكلية، ويجب على المواطنين امتثال هذه القرارات الاحتياطية والإجراءات الوقائية التي تتخذها الدولة؛ للحد من انتشار هذا الفيروس الوبائي.
وختامًا نقول: اللهم هذا أوانُ أن ترحم أمة حبيبك وترأف بهم، وتنجيهم من الكرب العظيم الذي هم فيه، يا من لا إله إلا أنت العظيم الحليم، لا إله إلا أنت رب العرش العظيم، لا إله إلا أنت رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم.
المصدر: بحوث دار الإفتاء المصرية