الثبات ـ من ذاكرة التاريخ
71 عاما مرت على سقوط آخر مدينة فلسطينية إبان النكبة، مدينة بئر السبع عاصمة صحراء النقب داخل أراضي 48.
مدينة بئر السبع هي من أشد نقاط الضعف التي تعانيها الرواية التاريخية الفلسطينية خاصة فيما يتعلق بالتهجير القسري لسكانها، وفي نقد ذاتي نرى أنه في حين يبدو تغييب الرواية الصهيونية للماضي العربي لبئر السبع أمرا معروفا دوافعه وأهدافه، فإن هذا التغييب والتجاهل من الرواية الفلسطينية هو أمر غريب.
وإزاء هذا الإهمال من جانب الرواية الفلسطينية، فإنه لا عجب من تبني الطلاب الجامعيين وطالبي العلم والمعرفة العرب على مختلف اهتماماتهم لرواية الطرف الإسرائيلي المهيمن، لأن هذه الرواية هي الرواية السائدة والشائعة والموجودة في متناول اليد.
وفي هذا السياق سوف نأتي على تعريف مبسط لبئر السبع، "ف بئر السبع، هو اسم قديم ينسب إلى سبع (أسد) كان يعيش في محيطها، وليس كما يحاول البعض تفسيره بأنه نسبة إلى سبع آبار، كما تقول الرواية الصهيونية، لإنه إذا كان الأمر كما يقولون فلماذا سبق المعدود العدد؟ ولماذا تظهر لفظة بئر بصيغة المفرد إذا كان الحديث عن سبع آبار بالفعل؟
وللإنصاف والحقيقة التاريخية، فإن مدينة بئر السبع أقيمت عام 1900، عندما قام العثمانيين بتجديد بناءها، وذلك كي تكون مناسبة لمكانة عاصمة القضاء، وإذا ما رجعنا قليلا بالتاريخ إلى الوراء لعلمنا بأنها مدينة قديمة أقيمت في عهد الكنعانيين وازدهرت في العصور اللاحقة، وفي صدر الإسلام أطلق عليها البعض اسم «بلد عمرو» أو «مدينة عمرو»، وذلك نسبة لعمرو بن العاص فاتح مصر الذي يقال بأنه قضى الفترة الأخيرة من حياته في بئر السبع وكذلك فعل ابنه عبد الله.
وكانت بئر السبع في هذه الفترة مفترق طرق ومحطة تجارية مهمة على الطريق بين مصر وبلاد الشام، ولكن تحول الاهتمام إلى طرق ونقاط أخرى أثر على مكانة هذه المدينة التي أهملت في القرن الحادي عشر الميلادي وتراجعت لتكون بلدة صغيرة في العهدتين الأيوبية والمملوكية، وعندما دخلها العثمانيون عام 1519 تحدثوا عن بلدة صغيرة ، أما بئر السبع الحديثة فعادت الحياة تدب في شرايينها بعد أن قرر العثمانيون جعلها عاصمة لقضاء الجنوب الذي كان أكبر الأقضية في فلسطين (شكل فيما بعد 40 % من مساحة فلسطين الانتدابية) ، حيث أقيم فيها مجلس بلدي ودار للحكومة. وتسارع تطور المدينة بعد وصول سكة الحديد الحجازية إليها عام 1905 الشيء الذي جعلها تلعب دور الحاضرة المدنية لمناطق النقب كافة، بحيث أصبحت مركز جذب لأبناء الأرياف والبادية الذين وجدوا فيها رزقاً ومتنفسا بين مدينتي غزة والخليل.
وفي الحرب العالمية الأولى اكتسبت بئر السبع مكانة مميزة بسبب جعلها قيادة لجمال باشا لبضع الوقت وقد اصدر فيها جريدة سماها «الصحراء المصورة» .
وحسب المؤرخين، إن البناء الاجتماعي لسكان المدينة بدأ بالتشكل بداية من عائلات الموظفين الذين جاؤوا من مدن أخرى كغزة والقدس ويافا ونابلس، وبعد ذلك بدأت عملية توطين طبيعية لأبناء البادية الذين أخذ عددهم بالتزايد ليصبحوا أغلبية سكان المدينة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وفي هذه الفترة، تزايد عدد سكان المدينة تزايداً ملحوظا فمن 300 نسمة عام 1900 وصل عددهم إلى 7200 نسمة عام 1948.
وشملت بئر السبع مدرستين ابتدائيتين، واحدة للبنين وأخرى للبنات ومدرسة داخلية خلال العام الدراسي 1947 -1948 وهو العام الدراسي الأخير قبل النكبة، حيث أصبحت المدرستان مدرستين ثانويتين وكان مجموع عدد الطلاب فيهما 600 طالب.
في ثورة 1936 -1939 كانت بئر السبع ناشطة ولها دور مهم في الثورة وقد تولى بعض شيوخ العشائر قيادة الفصائل الثورية في المنطقة التي عدت ضمن منطقة نشاط قائد منطقة الخليل عبد الحليم الجولاني (الشلف) الذي احتل مدينة بئر السبع في تشرين الثاني عام 1938.
الدفاع عن مدينة بئر السبع تم من قبل وحدات شبه نظامية من المتطوعين العرب بقيادة عبد الله أبو ستة ووحدات من متطوعي الإخوان المسلمين الذين عملوا قبل ذلك تحت قيادة الشهيد أحمد عبد العزيز وبعض مفارز المشاة من الجيش المصري، وبلغ مجموع المقاتلين العرب هناك قرابة 400 مقاتل، تحصنوا في مبنى شرطة المدينة، وفي محطة القطار التركية وفي مدرستي المدينة، وكان سلاحهم مكوناً، بالإضافة للبنادق الخفيفة، من سبع قاذفات هاون، مدفعين زنة ستة أرطال وبطارية مدفع جبلي عيار 3.7 بوصة، و3 مدافع مضادة للطائرات وأربع مدرعات خفيفة غنموها من الجيش الإسرائيلي بعد معركة عراق المنشية الأولى وثلاث مدرعات بريطانية خفيفة.
الهجوم الإسرائيلي على بئر السبع بدأ تمام الساعة الثالثة من مساء العشرين من تشرين الأول 1948 من خلال قصف جوي مركز وعنيف وقصف مدفعي من مدافع تمركزت إلى الغرب من المدينة، بعد ساعتين من صب الحمم على المدينة تقدمت وحدة من اللواء الإسرائيلي التاسع، واحتلت الحي الحديث الذي كان خارج خطوط الدفاع المحفورة المانعة للمدرعات التي أقيمت حول الأحياء القديمة.
عند وصول طلائع القوة الإسرائيلية إلى منطقة المقبرة الإسلامية، وجهت بمقاومة عنيفة نجحت بإيقافها وتكبيدها العديد من الخسائر بشكل استدعى التراجع بقصد التعامل مع الحامية العربية بالقصف الجوي مجدداً، وبعد قصف جوي مركز لساعات استطاعت وحدة مشاة من اقتحام محطة القطار ومبنى المدرسة الداخلية، وبذلك تم تطويق الحامية التي تجمعت مجدداً في مبنى الشرطة من الوراء.
ودارت على إثر ذلك معركة وجهاً لوجه وفي معظم الأحيان بالسلاح الأبيض من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت، وفي الساعة العاشرة إلا ربعاً تم إخضاع آخر نقاط المقاومة، التي تعرضت للهجوم من جهات مختلفة، وأسر من كان داخل مركز الشرطة من جنود مصريين ومقاتلين فلسطينيين.
وكانت حصيلة المعركة خسارة القوات الصهيونية ستة قتلى و21 جريحاً، في حين بلغت خسارة الطرف العربي 12 شهيداً من المقاتلين و21 شهيداً من المدنيين، في حين أصيب بجروح 44 شخصاً من المقاتلين والمدنيين.
وهكذا نجحت القوات الصهيونية باحتلال بئر السبع، حاضرة النقب العربي، وتهجير أهلها بعد أن فشلت باحتلال عراق المنشية والفالوجة قبل ذلك بأسبوع ضمن عملية «يوآب» التي استكمل فيها احتلال النقب حتى أم رشراش على ساحل البحر الأحمر في شتاء 1949وقد بقيت هاتان القريتان صامدتين فيما عرف باسم "كيس الفالوجة" حتى إخلائهما من قبل الجيش المصري طبقاً لاتفاقية الهدنة الموقعة بين مصر وإسرائيل في شباط عام 1949.