الثبات ـ لبنان
مع تغيّر المشهد في سوريا، أصبحت تصفية الحسابات أمراً عادياً، أو ربما متوقعاً من الطرف الذي يظن نفسه منتصراً. ومما لا شكّ فيه أنّ عدداً غير قليل من الانتهازيين استعدوا لتقديم رواياتهم عن التاريخ واعتبارها من المسلّمات، وكأنّ أعوام الأزمة السورية انتهت أو بعيدة لدرجة يصعب معها استعادة الأحداث. غريب أمر «التكويعة»، و«المكوّعين». فبناءً على السردية المتخيّلة، سينصب هؤلاء أقواس محاكم شكلية، لأنّ الأحكام صدرت مسبقاً، وأُعلنت وفقاً للائحة اتهامات أحداثها ممتدة منذ عام 1982، أنّ المذنب هو من قدّم التضحيات ضد العدو الصهيوني وحرّر أرضه وحماها، ثمّ دفع السكين عن رقبته ورقاب أهله خوفاً من الحز، ودفع وفقاً لمنطق الأمن القومي الخطر عن بلاده بوقوفه في سوريا مع الدولة حينها، وضد رغبات الأميركي والإسرائيلي وحلف «الناتو» ممثلاً بالعصا التركية والعقوبات الأوروبية.
نهاية الأسبوع الماضي، كتب المعارض السوري محمد سيد رصاص مقالة في «الأخبار» بعنوان «أخطاء إيران في سوريا». وصم الكاتب الفعل المقاوم بـ«الاحتكار»، وحمّل في مقالته إيران وحزب الله وزر الأزمة السورية كلّها، وعاير إيران والمقاومة في لبنان بعدم تضامن الشعب السوري معهما عندما ضربهما العدو الصهيوني عام 2024 خلال حرب إسناد غزة، وكأنّ الأمر فيه منقصة للمعتدى عليه من العدو. وزاد الكاتب في معايرة الشعب اللبناني عامةً والشيعة منهم خاصةً بـ«فتح البيوت السورية، والسماح لهم بالعمل»، وتبنّى سرديات عن الحرب في سوريا لا دليل عليها سوى تقارير إعلامية منحازة. كما لم ينس تذكير أمين عام الحزب السابق الشهيد السيد حسن نصر الله بـ«رفع صوره في جامع الأزهر عام 2006»، علماً أنّ هذا الأمر تحديداً يشرّف حاملي الصورة، لا صاحبها، وفقاً للمنطلقات الفكرية للمقاومة طبعاً.
ورغم الغبار الافتراضي الذي أثارته مقالة السيد رصاص، إلا أنّ الحقيقة وتسلسل الأحداث يعاكسان رغبة الكاتب في تحوير السرديات. مثلاً، الإجماع على المقاومة لم يكن موجوداً في يوم من الأيام. حتى بيروت التي حوصرت عام 1982، لم تجمع على المواجهة، بل طلبت وضغطت وألزمت طبقتها البرجوازية المقاومة الفلسطينية بالانسحاب منها. ولا ألقي باللوم هنا على هذه الضغوط لتسليم بيروت، بل كانت عاملاً مساعداً للعدو ولو بطريقة غير مباشرة، وسأعود لهذا الشاهد لاحقاً. وبدلاً من المعايرة بالتضامن مع المقاومة، نحن نسألك لماذا كان يُلعن الشهيد السيد حسن نصرالله على منابر مساجد سورية قبل تدخل الحزب في سوريا بـ11 سنة، تحديداً عام 2000 في داريا في ريف دمشق. نعرف الإجابة يا سيد رصاص، إنّه الإسلام المستورد من الصحراء، وهو نفسه من أسهم في صناعة مآسي سوريا كلها بعد عام 2010. لا أريد تبرئة النظام من ممارساته، فهو سمح بدخول هؤلاء في سنوات الانفتاح. ولكن، لا يجب أن يظن أحد أنّ مسار الأحداث في سوريا سيجعل تدخل حزب الله في سوريا أمراً مخجلاً، ما يسمح بالتطاول والتحايل واختراع القصص للشيطنة.
وعلى عكس ما يدّعيه الكاتب بـ«عدم إدراك» الشهيد السيد نصرالله لأثمان المشاركة في الحرب السورية، نذكّره، كان يعرف تماماً أنّ ما يقوم به هو عين الصواب في تلك الأعوام، وفقاً لعدد غير قليل من تصريحاته. وحزب الله، يا سيد رصاص، آخر المتدخّلين في سوريا، بحسب الشهيد السيد نصرالله. ولم يبدأ التدخل العسكري الفعلي في سوريا قبل نهاية عام 2012، أي بعد حوالى السنتين من بدء الاضطرابات. ولإنعاش ذاكرة الكاتب، كان أمين عام حزب الله السابق أكثر الداعين إلى المصالحة بين مختلف المكوّنات السورية، وعبّر مراراً عن سعيه الشخصي إلى الجمع بين الدولة والمعارضة، في حين كانت المعارضة تهدّد كلّ من يقف على الضفة المقابلة بالذبح، وشعارات مفادها «اليوم دمشق وغداً بيروت».
بالتالي، من غير المقبول أو المفهوم إطلاق الأحكام على الأحداث السورية بناءً على ما حدث ويحدث اليوم على الأراضي السورية، وغض الطرف، في المقابل، عن أحداث مرّت منذ 15 سنة. فالمعارضة السورية التي وصلت إلى الحكم اليوم لم تُظهر وجهها الحقيقي بعد، وفقاً لأشد المتشائمين، أو بالعبارة الشعبية «مغسولة 100 زوم» عن معارضة عام 2011، بحسب المتفائلين. وهنا، لا بدّ من تذكير الكاتب بمشاهد حزّ الرؤوس، وأكل الأكباد، وانتزاع الأحشاء، والإعدامات الميدانية، والهجوم على القرى والناس فقط لأنّها من طوائف مختلفة. حينها، تعرّضت القرى الحدودية على الجانب السوري، والتي يقطنها لبنانيون وسوريون، لمواجهة تهجير ومصادرة أراض وقتل، وأبدت فصائل المعارضة السورية استعدادها للقتل على الهوية، ومارسته. وثورتها لم تكن سلمية من اللحظات الأولى لانطلاقتها، والشواهد كثيرة.
وإن أزعج الكاتب مشاهد المجاهدين الأفغان والعراقيين والباكستانيين، والذين أُحضروا بكلّ صراحة وجهاراً للقتال إلى جانب مجاهدي حزب الله والحرس الثوري الإيراني في سوريا، كان من الأجدى به أن يعبّر عن انزعاجه أيضاً من المقاتلين الإيغور والتركمان والعرب من غير السوريين. هؤلاء أتوا إلى «أرض الجهاد السورية» قبل حزب الله بسنتين على الأقل. هل أتوا لإقامة الدولة العلمانية الديموقراطية التقدمية في سوريا، أم قادوا السيارات المفخخة عبر الحدود لتفجيرها في لبنان، أو في المدن السورية؟ ألم تزعجك مشاهد الأشلاء؟ هل إيران من أتت بهم؟
ثم، على ماذا استند الكاتب لاستخدام عبارات «التنكيل والحصارات، واستخدام سلاح التجويع والتعطيش» لوصف مجريات المعارك في مضايا؟ لا أعرف إن كانت ذاكرة الكاتب تخونه، أم أنّ المشهد السوري اليوم يدفعه إلى «التكويع»، لتبنّي سردية قناة «الجزيرة» وإعلام النفط والغاز حينها. لذا، يجب تذكير الكاتب أنّ من حاصر الناس في تلك المناطق هم مسلحو المعارضة الذين وصلوا إلى الحكم اليوم. هم تمترسوا خلف المدنيين ورفضوا الخروج في معارك مباشرة مع حزب الله، وقصفوا بعلبك والهرمل والقرى المحيطة. وأمام التهديد الدائم للمناطق اللبنانية الحدودية بإرسال السيارات المفخّخة، والتي مرّت عبر مناطق المدنيين السوريين، لم يجد حزب الله من حلّ سوى إنهاء هذه الحالة سواء في الزبداني، أو مضايا، أو القصير، وقطع خطوط إمداد المسلحين. وفي القصير وريفها، لم يدخل حزب الله تلك المناطق من دون سبب، بل مدافعاً عن نفسه وأهله. ولم يجد أمامه مزارعي الفواكه والخضر ورعاة الماشية، بل وجد مسلحين كانوا يستعدون لحصاره وقتاله في البقاع، أي في عمقه اللبناني الحيوي.
ولجهة تبنّي السيد رصاص سردية «منع الحزب المقاومين من أحزاب أخرى من القتال»، لا يكون الرّد عليه إلا بوصف الكلام بالمتحامل وغير الدقيق. سأذكّر السيد رصاص بانسحاب مقاتلين كثر من الجنوب عام 1982، للقول إنّنا نحن أهل القرى المحاذية للحدود الفلسطينية مصرون على مواجهة العدو، وحساسون جداً تجاه تقدير تضحيات من قاتل الألوية المدرعة وحده مثل الشهيد علي صالح (بلال) ورفاقه عام 2006، أو شهداء معركة «أولي البأس». في المقابل، نعم نحن رفضنا من خلع بزّته ورمى سلاحه قرب بيوت المدنيين وانسحب. هذه الأحداث، يا سيد رصاص، قلبت الرأي العام الجنوبي، وأدّت إلى احتضان الناس للمقاومين الذين يستشهدون، ولا يستسلمون عند أول رشق ناري. علماً أنني أدعوك إلى مراجعة خطابات الشهيد الأمين العام لحزب الله السابق وكلماته، إذ يشكر ويثني على جهود كلّ من سبق حزب الله بالمقاومة، ولا يختزل إنجاز عام 2000 بمقاومته وحدها.