نصيحة إلى الأطباءَ والمُمَرِّضين في زمن الوباء - الشيخ المربي محمد الفحام

الإثنين 24 آب , 2020 03:49 توقيت بيروت مقالات فكريّة

الثبات - مقالات 

 

نصيحة إلى الأطباءَ والمُمَرِّضين في زمن الوباء

 الشيخ المربي محمد الفحام

 

ممَّا خَيَّمَ على هذه الأُمَّةِ مِنْ مَآسي الوباء، وشِدَّتِه واللَّأْواء لَيُحَتِّمُ على مَنْ ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ أنْ يكونَ عَوْناً لَطائِفِياً على رفْعِ تلكَ الغُمَّةِ عن أهلِ البلاء تَخْفيفاً بِقَدْرِ ما أُوتيَ مِنْ إِمْكاناتٍ، مُسْتَعيناً باللهِ تعالى، سائلاً إيَّاه هِدايتَهُ إلى أَيْسَرِ السُّبُلِ الجابِرَةِ للخاطِرِ، الناشِرَةِ لِلْجَوَّ العاطِر.

هذا؛ وإنَّ الواقعَ المفروضَ على الناسِ اليومَ هو ذلك الانْتِشارُ الذي ولَّدَ الذُّعْرَ في القلوبِ، وضَيَّق الخِنَاق على الصُّدور خَوْفاً مِنَ الْهُبوب، وجعلَ الناسَ يَتَلَفَّتُون يَمْنَةً وشِمالاً تَلَفُّتَ الحَيرانِ، فَباءَ بالفَشَلِ في التعامُلِ مَنْ نَقَصَ إيمانُه، وظَهَرَ جَهْلُهُ، وظَنَّ أنَّه مالِكٌ روحَهُ أو روحَ غَيْرِه لا يُخْرِجُها سِواه، فَظَهَرَ على بَعضِ الأَطِبَّاءِ والْمُمَرِّضين لحظاتِ اسْتقبالِ المريضِ _هذا إذا أقَبِلُوا على خِدْمَتِه_ ما اصْطُلِحَ عليه بالتَّنَمُّرِ الذي يَكْسِرُ الخواطِرَ ويَمْنَعُ السبيلَ إلى كُلِّ عَمَلٍ جابرٍ لِكَسْرِ المريضِ بما يُبَدِّدُ مَنَاعَتَهُ المعنوية، ويُشْعِرُه بالغُرْبَةِ بين أَهْلِ الاخْتصاص والهِمَّةِ الحِسِّية، وقد ظَنَّ قَبْلاً أَنَّه مُقْبِلٌ على مَنْ سَيكونُ سببَ شفائهِ، ومَدْخَلَ عافِيَتِهِ، إذا به يُفاجَأُ بِجَفْوَةٍ وجُمودٍ، وفُحْشٍ ورُقُود، مُنْدَفِعاً انْدفاعاً مُعاكِساً فِراراً مِنَ الغَيْبِ الذي لم يُكْشَفْ سِرُّهُ، ولم تَظْهَرْ بَعْدُ حَقيقتُه. هذا مع العِلْمِ بأنَّ التَّحْريرَ الْمُطْلَقَ لِمَعْرِفَةِ جَوْهَرِ الْمَرَضِ إلى الآن مجهول وتحديدَ ضابِطِهِ غَيْرُ مَعْلُوم.  

يا أيها الأطباءُ! يا أيها الْمُمَرِّضُون! أَنْتُمْ أَعْرَفُ الناسِ بحاجَةِ المريض إلى الْمَناعَةِ المعنويَّةِ عَبْرَ إيجادِ الأَمَلِ في كيانِه لِإِخْراجِهِ مِنْ مِحْنَتِهِ بِهِمَّةٍ وعَزيمةٍ تُضْعِفُ لديه الداءَ وتُعينُه على تَجَرُّعِ الدواء، لتُيَسِّرَ على الطبيبِ والْمُمَرِّضِ سبيلَ الوصولِ إلى الْمُرادِ المأمولِ مِنْ ضمانِ العافيةِ والشفاء للجميع بإذن الله تعالى.

ودونَكَ هذا الشاهدَ الذي بَدَأَ بالْمَرَضِ وانْتَهَى بالعافية: يُحْمَلُ مَريضٌ إلى عيادةِ طبيبٍ جاحِدٍ قليلِ الإيمانِ مَحْجُوبٍ عن مُراقَبَةِ الديَّان، فَيَمْنَعُهُ مِنَ الدخولِ مُعْلِناً أنَّه مَوْبُوءٌ يَحْمِلُ المرضَ، فَيَتَحَوَّلُ أهلُه إلى طبيبٍ آخَرَ بِنَفْسِ الاخْتِصاصِ لكنَّ الفَرْقَ أنَّ هذا الأَخيرَ ذو عقيدةٍ سليمةٍ ودِرايةٍ طِبِّيَّةٍ واسِعَةٍ وحِكْمَةٍ في العيادةِ شامِلَةٍ، فلما رآه أَقْبَلَ عليه باحْتِرازاتِه الطبيَّة المطلوبةِ طِباً وشرعاً، ثم أعانَ على حَمْلِهِ فوضَعَهُ على سريرِهُ يَفْحَصُه ويُدَقِّقُ في فَحْصِهِ حتى ثَبَتَ أنَّ مَسَارَ الشِّفاءَ هيِّنٌ ليِّنٌ مِنَ اليُسْرِ بِمكان. 

يقولُ الطبيبُ الموفَّقُ: واللهِ لقد دَخَلَ عليَّ مَحْمُولاً ظاناً أنَّه الأَجَلُ، وخَرَجَ في عافيةٍ وهِمَّةٍ وأَمَلٍ شاكِراً لأَنْعُمِ الله تعالى كأَنَّما نِشِطَ مِنْ عِقال، كلُّ ذلك بِتَطْبيقِ سُنَّةِ الحبيبِ الأَعْظَمِ صلى الله عليه وسلم الذي أَمَرَنا أنْ نُنَفِّسَ عن أَجَلِ المريضِ تَطْييباً لخاطِره، وأَنْ لا نُنَصِّبَ أَنْفُسَنا أَرْباباً مِن دونِ اللهِ تعالى وكأَنَّ التِّرْياقَ بِمَلْكِنا لا بِمَلْكِ سِوانا، نَتَصَرَّفُ في العِبادِ تَصَرُّفَ الْمُمِيتينَ الْمُحْيين في غَفْلَةٍ عن حَتْمِيَّةِ الأَقْدارِ غافِلين أو مُتغافلِين عن الْمُتَصَرِّفِ الحَقِّ الفَعَّاِل لما يُريدُ مُتَجَرِّئِينَ على حُكْمِهِ وحِكْمَتِه جاهِلِينَ أو مُتَجاهِلِين أنَّ العِلْمَ إنَّما يَتْبَعُ الْمَعْلُومَ، وأنَّ الْمَعْلُومَ إنَّما هو الأَصْلُ الذي أَبْدعَ عليها المكوَّنات لذا قال أحدُ العارفين:عجبتُ لِطَبيبٍ لا يؤمِنُ بالله، أَجَلْ! لأَنَّ الإِعْجازَ الذي يَمُرُّ عليه الطبيبُ وهو يَجُولُ في كِيانِ المريضِ، ويَتَقَلَّبُ في كونِهِ الْمُعْجِزةَ المتجددة كَفيلٌ في اعْتِرافِهِ بعبوديَّتِه لمولاه. 

وهنا يَكْمُنُ القَوْلُ الفَصْلُ يا أيها السادةُ! بَأَنَّ الْمِعْيارَ في هذا هو الميزانُ ولا مِعْيارَ على الدِّقَّةِ إلا في تعاليمِ مَنْ لا يَنْطِقُ عن الهوى صلى الله عليه وسلم الذي عَلَّمَ كيف تكونُ عيادةُ المريضِ والسبيلُ اللطيفُ لِمُخاطَبَتِهِ.

أَصْغِ معي إلى هذا الحديثِ الْمُزَكِّي الذي أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دَخَلْتُمْ على مَريضٍ فَنَفِّسُوا له في أَجَلِه _بطولِ العمر_ فإنَّ ذلك لا يَرُدُّ شيئاً ويُطَيِّبُ نفسَه"، قال العلماء: ومِنْ ثمَّ فقد عَدُّوا في آدابِ العيادةِ تَشْجِيعَ العليلِ بِلطيفِ الْمَقالِ وحُسْنِ الحال. ويقولُ له: كما قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا بأس طهورٌ إن شاء الله"، وجميلٌ أنْ يُنَفِّسَ له قبل المعايَنَةِ بقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان: "ما يُصيبُ المسلِمَ مِنْ نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا أذىً ولا غمٍّ حتى الشَّوْكَةُ يشاكُها، إلا كَفَّرَ اللهُ بها مِنْ خَطاياه".

لذا مِنَ الضَّروريِّ تَنْشيطُ هِمَّتِهِ مِنْ أَجْلِ الصَّبْرِ على قَضاءِ اللهِ تعالى بِلُطْفٍ ولِينٍ كي لا يَضْجَرَ ويَجْذَعَ، وإِعلامُه بأَنَّ صَبْرَهُ وتَسليمَهُ للهِ تعالى أَنْجَعُ الأَدْواءِ لِتَعْجِيلِ الشفاءِ ذلك أنَّ راحةَ القلبِ تُورِثُ راحةَ الجَسَدِ، هذا؛ ومِنَ الْمُسْتَحْسَنِ أنْ يَقُصَّ عليه من الطرائفِ عن مَرْضَى عافاهُمُ اللهُ تعالى بسببِ ذلك ما يَدْفَعُه إلى الطَّمَعِ برحمةِ اللهِ تعالى وعافِيَتِهِ ويسِّع عنده دائرة الأَمَلِ بالشفاء.

أيها الأحبة! إياكُمْ والتَّنَمُّرَ فإنَّ اللهَ غيور، إيَّاكم والاستكبارَ فإنَّ اللهَ تعالى مُنْتَقِمٌ جَبَّارٌ، احْرِصُوا على جَبْرِ خاطِرِ المريضِ لِعَوْنِه على الشَّفاءِ الذي أَنْتُمْ أَحْوَجُ ما تكونُون إليه في أيِّ لحظةٍ مِنْ لحظاتِ الحياةِ ذلك أنَّه سبحانه هو الشافي، وهو المحيي والْمُمِيتُ بِيَدِهِ الخير وهو على كلِّ شيء قدير. 

نعم أيها الأحبة! مع الأَخْذِ بكامِلِ الأَسْبابِ الواقية لِلطَّرفَيْنِ والعَوْنِ على تحقيقِ العافيةِ بين الطبيبِ والمريض على الحسِّ والمعنى، والتي منها؛ الرِّفْقُ واللِّين واللُّطْفُ والرَّحمةُ في التَّعامُلِ لِيَضْمَنَ رحمةَ اللهِ تعالى فإنَّهُ كما وردَ عنه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَم".

ومنها؛ التواضُعُ والبُعْدُ عن الاسْتِكْبار وذلك لإيناسِ المريضِ وعَدَمِ تَنْفيرِه كي يَضْمَنَ دخولَ الجنَّة ذلك أنَّ الْمُسْتَكْبِرَ هو مِنْ أَهلِ النارِ ففي الصحيح: "لا يَدخلُ الجنةَ مَنْ كان في قَلْبِهِ مثقالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْر"، ثم عَرَّفَ الكِبرَ صلى الله عليه وسلم بقوله: "الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناس"، وعليه؛ فَيَنْبَغِي أنْ يَتَوَجَّهَ إلى المريضِ بملاطَفَةِ النَّفْسِ، وتَطْييبِ القلبِ كأَخٍ عَزيزٍ يَعْنِيهِ شفاؤهُ، ويَسُرُّهُ أنْ يرى عليه آثار عافيته.

ختاماً؛ يا مَنْ مَصائركم بِيَدِ اللطيفِ الخبيرِ عامِلُوا اللطيفِ الخبيرِ تَجِدُوا نِتاجَ لُطْفِهِ في أَيْنَعِ الثَّمَرِ وأبهى مَظاهر العافية، جعلني الله تعالى وإياكم من أهل الذكر والتذكير والبِشارة والْمُبَشِّرين والْمُبَشَّرين مِنْ عليائه سبحانه القائل:

{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ*الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}.

 

 

 

 

 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل