أهم أحداث السيرة في شهر ذو القعدة .. "صلح الحديبيَّة"

الأربعاء 24 حزيران , 2020 12:49 توقيت بيروت التاريخ الإسلامي

الثبات - التاريخ الإسلامي

 

أهم أحداث السيرة في شهر ذو القعدة

صلح الحديبيَّة

 

مثّل صلح الحديبية حدثاً مهماً في حياة المسلمين، ومنعطفاً بارزاً في مسيرتهم الدعوية والجهادية. وقد حمل هذا الصلح -والأحداث التي أحاطت به- الكثيرَ من الأحكام المتعلقة بالجهاد في سبيل الله، والاتفاقيات والمعاهدات التي يمكن للمسلمين أن يعقدوها مع الأعداء إذا تحققت المصلحة، وأعطاهم دروساً في فنون التفاوض، وفي فقه الموازنات.

وقد كان من بين بنود هذا الصلح أمور عدّها بعض المسلمين تنازلات غير مقبولة، لكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بحكمته وحنكته رأى فيها مصلحة وعزاً ونصراً للمسلمين في القريب العاجل.

 

أولاً: أحداث صلح الحديبية

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أنَّه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم يطوفون بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك، ففرحوا فرحاً شديداً، فقد اشتد بهم الحنين إلى مكة، وإلى أداء العمرة التي حُرموا منها سنوات وسنوات، وقد طمعوا في تحقق ذلك قريباً، فرؤيا الأنبياء حق.

خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة ستٍ من الهجرة، في ألف وأربعمئة من أصحابه من المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من العرب، وكانت بصحبته زوجته أم سلمة رضي الله عنها، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة، ليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظمًا له، وأنه لا يريد حرباً.

وحين وصل إلى عسفان -مكان بين مكة والمدينة- أخبره بشر بن سفيان الكعبي أن قريشًا قد استعدّت لصدّه عن البيت، ومنْعِه من دخول مكة، فحاول النبي صلى الله عليه وسلم تجنّبهم، وسلك طريقًا آخر وعرًا بين الشعاب، فلما وصل إلى الحديبية بركت ناقته، فأقام في ذلك المكان، وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم منهجه في التعامل مع قريش: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا".

أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش خراش بن أمية الخزاعي، فلما دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتله فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما صنعت قريش.

ثم أرسلَ عثمانَ رضي الله عنه، وقال له: "أخْبرهُم أَنّا لم نأت لقِتَال أحد، وَإِنَّمَا جِئْنَا زوّارا لهَذَا الْبَيْت معظمين لِحُرْمَتِهِ، مَعنا الْهَدْي نَنْحَره ونَنْصَرف". فقدم عثمان مكة، وأخبر قريشاً برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا، وعرضوا عليه أن يطوف بالبيت فأبى، ولقي –كما أمره رسول الله صل الله عليه وسلم- المستضعفين من المسلمين بمكة وبشّرهم بقرب الفرج والمخرج.

تأخر عثمان رضي الله عنه في الرجوع إلى المسلمين، وشاع أنه قد قُتل، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وكان جالسًا تحت الشجرة، فبايعه الصحابة على أن لا يفرّوا، وهذه هي بيعة الرضوان التي نزل فيها قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18].

بدأت الرسل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فجاء بُديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، فحمّله رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة لقريش مفادها: إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ: فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَه.

ثم جاء رجل من بني كنانة يقال له مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ)، فكلّمه ثم عاد إلى قريش، فأرسلوا إليه الحِلْسَ بنَ عَلقَمَةَ الكِنَانِيَّ -وهو يومئذ سيد الأَحَابِيش- فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلّهونَ –أي يعظّمون الهَدْيَ- فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ" فلما رآها وسمع الصحابة وهم يُلَبُّونَ، قَالَ: سُبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، فرجع ولم يصلْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا معشر قريش: قد رأيت ما لا يحلّ صدّه، فقالوا: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك"!

ثم جاء عروة بن مسعود، فقال: أي محمد، أرأيت إن اسْتَأصَلْتَ قومك، هل سمعتَ بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوهاً، وأرى أوباشاً من الناس لكأني بهم قد انكشفوا عنك غداً، فقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ ثم كلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلّم به أصحابه، فأخبره أنه لم يأتِ يريدُ حربًا، ثم قام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه: "إِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَلَا يَبْصُقُ بُصَاقَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَلَا يَسْقُطُ مِنْ شَعَرِهِ شَيْءٌ إِلَّا أَخَذُوهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ"، فرجع إلى قريش فقال: "يا معشر قريش، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت مَلِكًا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحابُ محمدٍ محمدًا، فلقد رأيت قومًا لا يُسْلِمونه لشيء أبدًا، وإنّه قد عرض عليكم خُطّة رشدٍ فاقبلوها".

فأرسلت قريش سُهَيل بن عَمْرٍو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ"، قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ" فلمّا انتهَى إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكلَّما، وَأَطَالَا الكلامَ، وَتَرَاجَعا حتَّى جَرَى بينهما الصلح، وأُمِر عليٌّ رضي الله عنه بالكتابة.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قال سهيل: أمّا الرحمن، فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهُمَّ) ثم قال: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ البَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ)، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنّا أُخذنا ضُغْطَة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يمشي مشيًا بطيئًا بسبب قيوده، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ)، قال: فوالله إذًا لم أصالحك على شيء أبدًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَأَجِزْهُ لِي)، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: (بَلَى فَافْعَل)، قال: ما أنا بفاعل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللهَ عز وجل جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ).

وقد اغتمّ المسلمون لهذا الشرط المُجحف وكرهوه، وقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: (نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا)

ولما فَرَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابة الصلح، قال لأصحابه: "قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا"، فما قام منهم رجل! حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتُحبّ ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الصحابة ذلك قاموا، فنحروا وحلقوا رؤوسهم.

ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى المدينة أنزل الله عليه قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً}[الفتح: 1-5]، فقال صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعاً".

 

ثانياً: بنود صلح الحديبية

نتج عن هذا الصلح اتفاق سمّي "صلح الحديبية" وكانت بنوده تنص على:

-وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض.

-يردّ المسلمون من يأتي إليهم من قريش مسلمًا دون علم أهله، وأن لا ترد قريش من يأتيها مرتدًا.

-من أحبّ من القبائل أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

-يرجع النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة عامه ذاك فلا يدخلها، على أن يعود العام القابل فيعتمر. وتضمّن هذا البند بعض التفاصيل، منها: أن تخرج قريش من الحرم ليدخله النبي صلى الله عليه وأصحابه، ليس معهم من السلاح إلا سلاح الراكب، وتكون السيوف في القُرُب، ويبقى في مكة ثلاثة أيام.

-ترك المؤاخذة بما تقدم بين الفريقين من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على الصلح. والتأكيد على ذلك بمنع ما يؤدي إلى رجوع الحرب بين الفريقين.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل