فساد دولتنا العميقة ـ عدنان الساحلي

الجمعة 15 أيار , 2020 10:30 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

تصنف "الدولة العميقة" أو "الدولة المتجذرة"، بأنها دولة داخل دولة، أو أنها السلطة الفعلية غير المنتخبة، التي تستعمل السلطات المنتخبة واجهة لها، تتحكم بها وتحكم من خلالها وترسم لها سياساتها الإستراتيجية والمفصلية. وهي الحارس الفعلي للفكرة التي أوجد النظام القائم من أجلها؛ وللركائز التي تشكل أعمدة وأساسات هذا النظام، التي لا تتغير مهما حدثت تغييرات على واجهات النظام وأسماء الحكام، الذين تختارهم "القوى الخفية" وتوصلهم بكل "ديموقراطية" وبوسائل "الإنتخاب"، إلى حيث يخدمونها ويؤمنون لها مصالحها وديمومة الشكل الذي تتحكم من خلفه بالسلطة وبكل مصادر القرار، الذي ينص الدستور على أن الشعب مصدره، لكن أنّى لشعب مغلوب على أمره أن يكون مصدر سلطة تتسلط عليه، تنهب أمواله وخيراته؛ وتقمعه عندما يرفع أصواته بالإحتجاج.

لذلك، فإن طبيعة النظام اللبناني لم تتغير منذ تأسيس الكيان، فلا "الثورة البيضاء" التي واجهت فساد حكم بشارة الخوري، عدلت من أسس النظام والدولة. ولا "ثورة 1958" التي عارضت التبعية للأحلاف الأميركية، حدت من قوة "أكلة الجبنة"، الذين تصدوا لمحاولة فؤاد شهاب إقامة مؤسسات لدولة حديثة. حتى الذين شملهم التطهير في ستينيات القرن الماضي، لفسادهم، عاد بعضهم نواباً عن الشعب، رغم أنف المصلحين. وعندما تكونت حركة شعبية ومطلبية فرضت نفسها بدماء العمال والطلاب وبدأت تحقق تغييرات تفرض مصالح اللبنانيين كأولوية، مثل إنشاء الجامعة اللبنانية وإقامة الضمان الإجتماعي؛ واعتماد حد أدنى للأجور، جرى الإنقضاض عليها وتفتيت اللبنانيين بمسرحية الصراع الطائفي حيناً؛ أو بالحرب ضد الغرباء حيناً أخر. علماً أن أولئك "الغرباء" كانوا سبب الإزدهار الإقتصادي اللبناني عند قدومهم  إلى لبنان! ولم يفلح سقوط 150 ألف ضحية في تغيير شعرة من جوهر هذا النظام. ما عدا بعض التبديلات في طرابيش ووجوه واجهات الحكم.

دائماً كان الهدف هو إستمرار صيغة التحالف بين زعماء الطوائف (وهم تحديداً الإقطاع السياسي والعائلي السافر أوالمقنع، والمؤسسات الطائفية) وأصحاب المصارف (الرأسماليون المرتبطون بالإقتصاد العالمي). حتى أن الذين دخلوا السلطة كمنتفضين على الإقطاع القديم، عملوا بتفان وإخلاص في خدمة هذا التحالف، الذي سرق أموال اللبنانيين وثرواتهم ومارس بحقهم شتى أنواع الإذلال، ليس أقلها إفقارهم بتخفيض قيمة عملتهم الوطنية. و"دولرة" إقتصادهم، ليسهل إخضاعهم لصانعي الدولار ووكلائهم المحليين. في حين جرى طرد كل من تمرد على جوهر النظام وحاول تغييره، إلى خارج السلطة. وهم يعدون على أصابع يد واحدة.

آخر فضائح مراكز قوة الفساد العميقة، كانت في التدخل السافر للإدارة الأميركية وتهديدها كل من يمس حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي بينت التحقيقات الأخيرة أنه يقف خلف إسقاط ليرة اللبنانيين، في حرب العقوبات الأميركية على لبنان، لإفقار شعبه حتى يخضع للضغوط والمطالب الأميركية و"الإسرائيلية" المعروفة. فحاكم المصرف المركزي، ينفذ سياسة العقوبات الأميركية بحق اللبنانيين، باعتراف المسؤولين الأميركيين أنفسهم.

كما أن مرجعيات الطوائف كشفت للبنانيين أنها تشكل خط الدفاع القوي عن "الدولة العميقة". فهي لم تتورع عن كشف اقنعتها ورسم الخطوط الحمر لحماية هذا الفاسد أو ذاك. وما جرى مع رياض سلامة وفؤاد السنيورة وأمثالهما، شكل إعترافاً بأن "الدولة العميقة" في لبنان، هي حامية الفساد والفاسدين.   

وشكلت مسألة الفيول المغشوش الحالية وتورط زعماء ومراجع في حماية المرتكبين، فضيحة في مسلسل لا ينته. وهو ليس وليد اليوم. فاللبنانيون يذكرون فضائح كثيرة شهدتها العقود السابقة، مثل فضيحة "المر والنجار بقضية راديو أوريان والمطار". أو قضية صفقة صواريخ "الكروتال". أو طائرات "البوما". أو صرف الفائض الإحتياطي من مال الخزينة، لشراء السلاح الأميركي. أو توزيع أموال "الكازينو" على المحاسيب والأزلام. أو احتكار بعض السياسيين إستيراد النفط والمشتقات البترولية، للحصول على سمسرات بقيمة مئات ملايين الدولارات سنوياً.

والخطير في تركيبة الفساد القائمة، أن التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على ديون جديدة، تضاف إلى أثقال الديون القديمة، التي ليس بمستطاع لبنان الوفاء بخدمتها، قبل سدادها، يبين أن هناك من يفضل تسليم قرار البلد إلى الإدارة الأميركية، التي تملك قرار البنك الدولي، فهي مستعدة للتضحية بالبلد كله، للتخلص من قوة طارئة على النظام، ممثلة بالمقاومة. لآنها تشكل خطراً على قوى الدولة العميقة ووظيفتها في خدمة القوى الإقليمية والدولية التي تحميها.

ويعرف اللبنانيون أن توزيع "جبنة الحكم"، بما فيها من وظائف ومواقع ومصادر مال، هو من عمل "الدولة العميقة"، بحيث يحصل حراس النظام على أتعابهم من خدمته، بما يتيح لهم شراء الولاءات والأتباع، لتكوين قاعدة محازبين تأكل من خبز السلطان وتضرب بسيفه.

والواقع أن المشكلة التي يواجهها اللبنانيون، ليست فقط بمجموعة من الفاسدين، الذين سرقوا أموال الشعب اللبناني وراكموا ثروات بعشرات مليارات الدولارات، بل هي في وجود نظام، لا يستمر من دون ممارسة الفساد. لأن الزبائنية أسلوبه في حشد المؤيدين وتزوير إرادة الشعب للوصول إلى السلطة. والفساد خادم للتسلط، الذي يخدم بدوره التبعية، المرتبطة بالحمايات الأجنبية، المتوارثة منذ أيام المتصرفية، عندما فرضت الدول السبع نفوذها على لبنان؛ وتبنت كل دولة منها "طائفة" جعلتها وكيلة لمصالحها. وهذا كان الزرع الذي أنبت الطائفية، التي إحتكمت للمحاصصة حتى لا تأكل الطوائف بعضها، في حروب لم تهدأ منذ أن عملت أصابع النفوذ الأجنبي على إشعال الفتن بين اللبنانيين، فكان إفتعال لعبة "كلة" سبباً لحرب عام 1860. أو تحويل الصراع الطبقي والحراك الإجتماعي والنقابي، عام 1975 إلى حرب طوائف حيناً؛ وحرب ضد الغرباء حيناً أخر. المهم ألا يعترف المستفيدون من "بقرة الدولة الحلوب"، بأن المشكلة في لا عدالة هذا النظام. وبأن وظيفته التي يؤديها لا علاقة لها بخدمة اللبنانيين وتأمين عيشهم الكريم، بل على العكس من ذلك، يعمل هذا النظام وأركانه على إفتعال الأسباب والمشكلات لدفع اللبنانيين إلى الهجرة في بلاد الله الواسعة، ففي ذلك منفعتان للفاسدين: إبعاد الأجيال التي يمكن أن تعترض وتحاسب. واستغلال المغترب كمصدر تمويل لإقتصاد يستنزفه الحكام بسرقاتهم للثراء ولشراء ذمم المحاسيب والأزلام.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل