كيف يزكي المسلم نفسه؟ - الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

الإثنين 06 نيسان , 2020 03:57 توقيت بيروت مقالات فكريّة

الثبات - مقالات فكرية 

 

كيف يزكي المسلم نفسه؟ 

الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

 

 

سؤال وجه للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: أرجو من سماحتكم إعطائي نبذة موجزة عن مراحل تزكية النفس والأحوال والمقامات التي يمر بها الإنسان الذي يريد تزكية النفس عن طريق الأقدمين.

 

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد، فإن "التزكية"، وهي كلمة قرآنية، تعني السعي إلى تطهير النفس من الشوائب التي قلّما تنفك منها، والتي إن بقيت عالقةً بها تورد صاحبها المهالك، وتحيل إيمانه بالله إلى مظهر لا حقيقة له ولا فائدة منه، وأخطر هذه الشوائب الكبر، ثم العجب والحقد وحب الدنيا ومظاهرها من المال والجاه والرئاسة .. إلخ.

ويتلخص سبيل التزكية باستحواذ التوحيد يقيناً راسخاً على العقل، أي أن يتحول التوحيد من كلمة "لا إله إلا الله"! إذ يرددها اللسان إلى يقين عقلي جازم بأن الله واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، لا يشركه في شيء منها أحد. فهو وحده القائم بأمر هذا الكون كله، ومن ثم فهو الموجد والمعدم، وهو الضار والنافع، وهو المعطي والمانع..

غير أنَّ التوحيد لا يتحول من شعار على اللسان إلى يقين راسخ في العقل، ثم تأثير على الوجدان، إلا بالإكثار من مراقبة الله، ولا يكون ذلك، إلا بالإكثار من ذكره، أي تذكره، واللسان ليس إلا أداةً لهذا التذكر. وخير سبيل لهذا الذكر والتذكر أن يربط الإنسان دائماً النعم التي تفد إليه بالمنعم، فكلما أقبلت إليه نعمة تذكّر بها المنعم وأيقن أنها وافدة إليه منه، ومن المعلوم أن نعم الله كثيرة لا تحصى. ولقد كانت هذه طريقة سيدنا رسول الله في ذكر الله عز وجل.

فإذا استمر العبد على هذا العلاج من الذكر والتذكر ترسخت عقيدة التوحيد في عقله، وغابت الفاعلية المزيفة للأغيار عن عقله وتفكيره. ثم إن هذا اليقين الاعتقادي ينعكس إلى قلبه حباً ومهابةً وخوفاً .. إذ يعلم بعقله ويشعر بفؤاده أن المحسن الأوحد في الكون هو الله، والمتصرف بالعباد والمخلوقات هو الله. فتذوب في ضرام هذه المشاعر المهيمنة تلك الشوائب التي كانت عالقة بالنفس.

فلا يرى لنفسه قيمة ذاتية حتى يتكبر بها. ولا يرى الدنيا بكل معانيها وما فيها إلا جنداً بيد الله عز وجل.

أما ما تسألني عنه من الأحوال المتمثلة فيما يسمونه الفناء والبقاء ونحوهما، فقد دأب المتصوفة المتأخرون ومن جاء على غرارهم في هذا العصر، على اعتبار هذه الأحوال مراحل على الطريق يجب على السالك أن يضع نصب عينيه الوصول إلى كل منها، ثم اجتيازها إلى التي تليها.

غير أنَّ هذا التصور - مع السلوك الذي على أساسه - مخالف لما كان عليه السلف الصالح، بل هو مخالف لما كان عليه أئمة السالكين في هذا الطريق ومنهم رجال الرسالة القشيرية.

إنَّ المطلوب من السالك أن يسعى بالوسيلة التي ذكرتها إلى الاصطباغ التام بحقيقة التوحيد، والغاية الوحيدة التي ينبغي أن يتمثلها في ذهنه هي أن يرقى إلى حالة يتعامل فيها مع الأسباب الكونية مع رؤية المسبب وحده، وعند هذه الغاية يصطبغ السالك بحقيقة العبودية لله عز وجل. وهي قصارى ما كان السلف الصالح يطمحون إليه.

وفي الطريق إلى هذه الغاية قد يعاني بعض السالكين مما يسمى الفناء، فيفنى أي يذهل ويغيب عن الأكوان بالمكون، فلا يرى لها وجوداً، وقد ينطق في هذه الحال بما يعبر عن شعوره هذا ويخالف الواقع والشرع.

فلنتعلم أنَّ هذه حالة طارئة ما ينبغي أن يعدّها السالك مرحلة لا بدّ من المرور بها أو الوقوف عندها. بل عليه أن يعمل على تجنبها جهد استطاعته، فإن غُلب على أمره، فليعلم أنه ضعف ابتلي به من حيث عوفي منه أصحاب رسول الله ومن سلكوا نهجهم من التابعين وخيرة السلف الصالح. وليفعل كل ما يملك لتجاوز هذه الحالة إلى ما يسمى بالبقاء، وهو الوضع الذي يرى فيه الأسباب ويتعامل معها طبق موازين الشرع، ولكنه لا يرى لها أيّ فاعلية، ولا ينسب أي تأثير إليها.

وهذا الذي قلته عن الأحوال يقال أيضاً عما يسمونه المقامات، كمقام الصبر، ثم الشكر، ثم الرضا، ثم اليقين. إن من الخطأ أن يضع السالك نصب عينيه التنقل في هذه المقامات ليصل أخيراً إلى مقام اليقين. بل عليه منذ بدء سلوكه أن يبذل كل ما في وسعه لبلوغ أعلى مراتب اليقين. فالصبر ليس منفكاً عن اليقين، والرضا ما ينبغي أن ينفك عن الصبر، بل المطلوب ممن قرر أن يجاهد نفسه الأمارة بالسوء أن يضع نصب عينيه أن يتحلّى في وقت واحد بالصبر والرضا والشكر والتوكل واليقين. وسبيل ذلك هو الإكثار من ذكر الله الذي لا يراد منه فرقعة السبحة في اليد، وإنما المراد منه بعبارة مختصرة تذكر المكوِّن كلما رئيت الأكوان، وتذكر المنعم كلما رئيت النعم.

نعم، قد يُلجِئ نظام السلوك بعض السالكين إلى التدرج في بعض هذه المقامات، ولكنها حالات اضطرارية لأصحابها، وليست منهجاً تربوياً لعامة السالكين.

ثم اعلم يا أخي أنَّ هذا الذي تسألني عنه، أياً كان اسمه، ذوق بل شعور وسلوك يهيمن عليه نظام الشرع، وليس علماً يُروى أو فناً يمثّل أو مهنة يستدرّ بها رزق أو تُنال بها رتبة !..

وقد قال أحد الربانيين من السلف الصالح: "كان التصوف في صدر الإسلام مسمى لا اسم له، ثم أصبح اليوم اسماً لا مسمى له".

سؤال: الدكتور الحبيب ومعلمي الشيخ محمد سعيد ثبته الله على الحق أرجو إعطائي - بشكل مختصر - ورداً يومياً لي لأسير عليه من الأذكار لأصلح نفسي وورداً آخر أجتمع عليه مع العائلة وحبذا لو يكون نفس أوراد والدك رحمه الله.

الجواب: الأوراد التي كان والدي حريصاً عليها ويوصي بها، الاستغفار قبيل الفجر مائة مرة، وشهادة "لا إله إلا الله" بعد الفجر مائة مرة، والتسبيح بصيغة "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" مائة مرة والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة مرة، وقراءة ورد الإمام النووي، وقراءة سورة يس صباحاً مع ما تيسر من تلاوة القرآن.

[ملاحظة: هذا المقال كتب وجهز قبيل استشهاد العلامة الإمام وبتنسيق معه مباشرة، وهو من دوّن الأوراد التي ينصح بالالتزام بها].

 

المصدر: موقع نسيم الشام


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل