الحكم العطائية ... "لا تترقب فروغ الأغيار، فإن ذلك يقطعك عن وجود المراقبة له فيما هو مقيمك فيه"

الخميس 26 كانون الأول , 2019 03:09 توقيت بيروت تصوّف

الثبات - التصوف

 

 "لا تترقب فروغ الأغيار، فإن ذلك يقطعك عن وجود المراقبة له فيما هو مقيمك فيه"

 

من المعلوم أن هذه الحياة الدنيا، مليئة بالمغريات والملهيات والمنسيات التي من شأنها أن تقطع العبد عن الله عز وجل. وصدق الله جل جلاله إذ يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ}.

ومهما حاول الإنسان أن ينتقي لنفسه حياة صافية نظيفة من هذه الشواغل، فلن يعثر عليها، مادام يتقلب في فجاج هذه الحياة الدنيا، فإذا ترفعوا فوقها وتغلبوا على آفاتها، استجابة لأمر الله عز وجل، وفّى لهم وعده، وأجزل لهم المثوبة والأجر، وأكرمهم بنعيم مقيم وسعادة خالدة، وإن ركنوا إليها وتركوها تتغلب على الوظيفة التي أقامهم الله عليها، فنسوا في سبيلها الله ووصاياه وأحكامه، نفذ فيهم وعيده، وقضى عليهم بشقاء لا نهاية له. إذن فلا مطمع في أن يتخلص الإنسان، مادام في هذه الحياة الدنيا، من هذه الشواغل التي عبر عنها ابن عطاء الله بالأغيار، بل المطلوبنه أن يعيش في غمارها، وأن يصارعها حتى يتغلب عليها، فيسخرها لأوامر الله ومرضاته، ولا يتركها تسخره للانزلاق في حمأة الشهوات والأهواء. وهذا معنى قول العلماء الربانيين ((الخلوة في الجلوة)).

أي ليست الخلوة التي يطلبها الله منك أن تفرّ من نظام الحياة الدنيا ومجتمعها الإنساني، إلى كهف قصي لا يراك فيه أحد ولا تراه، وإنما الخلوة التي يحبها ويشرعها الله لك، أن تكون داخلاً في معترك هذه الحياة ومترفعاً في الوقت ذاته فوق أوضارها، تجابه تيارات متعها ومغرياتها متحكماً بها، لا متحكمة بك. غير أن في الناس من يجهل هذا القانون الرباني والحكمة منه، فيستسلم لشواغل الحياة وآفاتها، محدثاً نفسه أنه إنما يستقبل منها شواغل عابرة.

إذن فكيف الخلاص منها؟

إن الخلاص لا يكون بالفرار منها، على أن الفرار منها، مع البقاء في هذه الحياة غير ممكن. لأن الشواغل التي عبر عنها ابن عطاء الله بالأغيار، ليست محصورةً بما تراه عيناك من زينة الحياة الدنيا وزخارفها ومغرياتها، وفتنة الناس بعضهم ببعض، حتى تقول لنفسك: سأنجو منها بالابتعاد عنها واللجوء إلى العزلة والخلوات. إن نفسك التي بين جنبيك مليئة بالشواغل والأغيار، بل إنها لشواغل أسوأ وأخطر من تلك التي تطوف بك أو تجابهك في الأسواق والملتقيات والمجتمعات..

وقد علمت أن قوارب النجاة، إنما تتمثل في صدق الالتجاء إلى الله والدوام عليه، مع كثرة ذكر الله ومراقبته. ولم يكن فرار أصحاب رسول الله ومن جاء بعدهم من السلف الصالح، إلا إلى هذا الملاذ. إنك لتعلم أن رسالة الدعوة إلى الله زجتهم في مخاضة الدنيا، بكل مافيها من ألوان المغريات والعواصف المهلكة، ووباء الفسوق، وفتنة المال والحضارات.

فما الذي عصمهم من موبقاتها وآفاتها؟

إنهم لم يتراجعوا، لينكمشوا عنها إلى سابق عزلتهم وخلواتهم داخل أقطار الجزيرة العربية، بل خاضوا غمار الدنيا التي انفتحت عليهم، متوكلين على الله توكلاً حقيقياً، لا لفظياً كشأننا اليوم، مقبلين على زاد دائم من مراقبة الله وذكره وكثرة الالتجاء إليه والانكسار بين يديه، داعين متضرعين أن يحميهم الله عز وجل من تلك التيارات المهلكة التي لا قبل لهم بها وأن لا يكلهم إلى نفوسهم الأمارة وكياناتهم الضعيفة.. فأسعفهم الله عز وجل واستجاب لهم، وأكرمهم بوقاية كوقايته عز وجل للوليد في المهد. وليس خبر عبد الرحمن الداخل وأصحابه القلة عنك ببعيد!.. ألم يغامروا في سبيل نشر رسالة الله، ويتجهوا بها إلى عالم جديد لا علم لهم به، ولاخبر لديهم عنه، لقد كان ذلك العالم الجديد الذي وفدوا إليه مليئاً بالأخطار المتجهة إلى معاشهم وحياتهم الدنيوية، وبالأخطار والشواغل المتجهة إلى دينهم وعلاقتهم بالله عز وجل.

فكيف وقاهم الله شر تلك الأخطار كلها؟

وكيف أخضع الله لهم تلك المجتمعات، وأنار أمامهم ومن حولهم تلك الليالي الحالكات؟

لو أنهم استسلموا للواقع، وانتظروا، أو ترقبوا، فراغهم من تلك الأغيار، على حد تعبير ابن عطاء الله، متصورين أنها ستمرّ بهم وتجتازهم، إذن لاختنقوا في حمأتها، وأصبحوا أثراً بعد عين، وبقيت تلك المجتمعات تخب في ظلامها. لقد كان سبيلهم إلى تلك الوقاية الإلهية العجيبة، فرارهم إلى الله. وكان معنى فرارهم إليه شدّة التجائهم إليه.. كانوا إذا دعوه، دعوه دعاء المضطر الواجف، وكانوا يراقبونه في كل حركاتهم وسكناتهم وأطوارهم، كانت جسومهم وظواهرهم تتقلب في غمار تلك العواصف والتيارات والمغريات والأخطار، غير أن قلوبهم وأفكارهم كانت منصرفة بالذكر والرجاء إلى مدبر الكائنات جل جلاله. ولو اعتبر المسلمون اليوم بهذه الحكمة التي اعتصرها ابن عطاء الله من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالح، واتخذوها لأنفسهم منهجاً، إذن لكتب الله لهم من التأييد ماكتبه لعبد الرحمن الداخل وصحبه.

وصدق الله القائل: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ ، وَلَنُسْكِنَنَكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ}.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل