الحكم العطائية ... "مَتى أَوْحَشَكَ مِنْ خَلْقِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُريدُ أَنْ يَفْتَحَ لَكَ بابَ الأُنْسِ بهِ"

السبت 09 تشرين الثاني , 2019 03:18 توقيت بيروت تصوّف

الثبات - التصوف

 

"مَتى أَوْحَشَكَ مِنْ خَلْقِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُريدُ أَنْ يَفْتَحَ لَكَ بابَ الأُنْسِ بهِ"

 

هل شعرت يوماً بضيق من الناس والخلق وأخذت تبحث عن ملجأ تأنس إليه؟

 هل ضقت يوماً بأذى الناس وسوء أخلاقهم واستوحشت الوجود بينهم؟!

 لا تحزن فإنَّ هذه الوحشة من الخلق قد تكون سبباً في أنسك بالله سبحانه وتعالى.

 فالأنس الحقيقي هو الأنس بالله وليس أنس بالعباد، قال تعالى: {َإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.

فاستحضار القلب هذا البر والإحسان واللطف يوجب قربه من الل سبحانه وتعالى، وقربه منه يوجب له الأنس، الأنس بالله هو ثمرة الطاعة والمحبة له سبحانه وتعالى.

ومما يروى عن أبينا آدم عليه السلام أنَّه كان يبكي حزناً وأسى بين وقت وأخر حتى بعدما تاب الله عليه، كان يبكي شوقاً، شوقاً للوطن "الجنة".

لقد كان آدم يدرك بأنَّ الأرض ليست بوطن ولا هي بدار إقامة، بل هي دار اختباره الممهدة لدار قراره، ولذا فإننا نجد أنفسنا نضيق بالخلق والناس بين وقت وآخر، فنشعر بحنين وشوق إلى الوطن الأول إلى الجنة ليس لما فيها من متاع وملذات ولكن للقرب من الله والأنس به.

وهذا هو السر الذي تجلي في كلام الإمام ابن عطاء الله السكندري عندما قال في حكمتة الخامسة والثلاثون بعد المائتين: "إنما أجرى الأذى على أيديهم كيلا تكون ساكناً إليهم، أراد أن يزعجك عن كل شيء حتى لايشغلك عنه شيء".

فلا تجزع بالوحشة إذا اعترتك، ولا من الضيق من الخلق، فلعل هذا علامة نظر الله إليك، وإرادته أن يبدل ما اعتدت عليه من الأنس بالفانيات إلى الأنس بالباقيات الصالحات.

وهذا ما يذهب بنا إلى تأمل حكمة أخري من حكم  ابن عطاء الله وهي الحكمة الثامنة والتسعون والتي ترتبط بشكل وثيق بالحكمة السابقة ويقول فيها: "متى أوحشك من خلقه فاعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به".

هذه سنة الله في خلقه إذا أراد أن يؤنس عبده بذكره ويتحفه بمعرفته، أوحشه من خلقه، وشغله بخدمته، وألهمه ذكره، حتى إذا امتلأ قلبه بالأنوار وتمكن من حلاوة الشهود والاستبصار، رَدَّه إليهم رحمة لهم، لأنَّه حينئذ لقوته يأخذ منهم ولا يأخذون منه.

 ومثاله في الحس كفتيلة شعلتها فما دامت ضعيفة، لابدَّ أن تحفظها من الريح، وتقصد بها المواضع الخفية. فإذا اشتدَّ نورها وأشعلتها في الحطب، صعدت بها إلى ظهور الجبال، فبقدر ما يصيبها الريح، يعظم اشتعالها.

كذلك السائر ~إلى الله  مادام في البداية لا يليق به إلا الوحشة من الخلق والفرار منهم. فإذا تمكن في الشهود، فلا يليق به حينئذ إلا الخلطة معهم، لأنَّهم لا يضرونه.

فمتى أوحشك أيها العبد من خلقه وعزلك عنهم في قلبك، فاعلم أنَّه تعالى أراد أن يؤنسك به ويغنيك بمعرفته، فقد كان عليه السلام حين قرب أوانَّ النبوة والرسالة، حبب إليه الخلوة؛ فكان يخلو بغار حراء.

 وحكمة ذلك تصفية البواطن من الشواغل والشواغب لتتهيأ لقبول ما تتحمله من الأسرار والمواهب فإذا تطهر من الأكدار مليء بالأنوار، فأشرقت فيه شموس العرفان، وتمكن من حضرة الشهود والعيان.

 فهذه سنة الله في أولياءه وأصفيائه يفرون أولاً من الناس حتى يحصل لهم منهم الإياس ثم يردهم الحق إليهم رغماً على أنفسهم لمقام الدلالة والإرشاد فينتفع بهم العباد وتحيا بوجودهم البلاد.

 

 وفي مثلهم قال الشاعر:

تحيا بكم كل أرض تنزلون بها ... كأنَّكم في بقاع الأرض أمطار

وتشتهي العين فيكم منظراً حسناً ... كأنَّكم في عيون الناس أزهار

ونوركم يهتدي الساري برؤيته ... كأنَّكم في ظلام الليل أقمار

لا أوحش الله ربعاً من زيارتكم ... يا من لهم في الحشا والقلب تذكار


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل