حصون الفساد ـ عدنان الساحلي

الجمعة 17 أيار , 2019 09:51 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

يستغرب اللبنانيون كيف أن كل تحركاتهم واحتجاجاتهم المتنوعة، ضد السياسة الإقتصادية لحكومة سعد الحريري، تذهب أدراج الرياح، فهل أن آذان الحكومة رئيساً ووزراء واحدة من طين وأخرى من عجين؟ أم أن هناك ما يمنع هؤلاء من تلبية طلب شعبهم بكف أيديهم عن جيوبه، بعدما باتت مداخيله تعجز عن إيفاء الديون التي يرتبونها عليه؟

الحكومة حتى الساعة لم تنجز ميزانيتها العامة لأنها ترفض سد العجز الواقع في هذه الميزانية، إلا من جيوب الفقراء ومحدودي الدخل وصغار الموظفين. في حين أن أصوات اللبنانيين بحت من الحديث والتنبيه إلى مصادر هدر في الدولة وكذلك مصادر تمويل، تتجاهلها الحكومة، رغم أنها أكثر من كافية لسد هذا العجز، بل ولتأمين دخل إضافي للخزينة العامة.

والمثير في هذا الأمر، أن النواب الممثلين بوزراء في الحكومة وكذلك الوزراء، يتحدثون ويرغون ويزبدون في وصف الفساد وفي إنتقاده والدعوة إلى محاربته، لكنهم إما عن جهل والأرجح عن خبث، يتجاهلون الإشارة إلى مواقع الهدر والفساد التي سببت وتسبب هذا العجز وهذه المديونية الكبيرة في ميزانية الدولة.

يتجاهلون أن الحكومات المتعاقبة منذ عقود لم تضع سياسة إقتصادية حقيقية وفاعلة تعمل على تحفيز الإنتاج وزيادة فرص العمل واستيفاء الرسوم والضرائب من أصحاب الدخل الأكبر، بدلاً من الإستقواء على الفقراء وانتزاع أموالهم بالضرائب المباشرة. وأن أي إصلاح صادق النية يبدأ بوضع سياسة تخالف تلك التي أدت إلى الواقع الحالي.

لا يتحدثون عن سياسة الإستدانة ولا عن تجيير البلد لأصحاب المصارف ولا عن الفوائد المرتفعة على الدين العام، التي أفرغت الخزينة قصداً حتى يتسنى للنافذين الإثراء السريع والفاحش على حساب مال الشعب.

لا يتحدثون ولو همساً عن "الدجاجات التي تبيض ذهباً" لأولياء الأمر، عن كازينو لبنان وصندوقه الأسود. ولا عن "مجلس الإنماء والإعمار" أو مجلس الجنوب أو صندوق المهجرين وهي أشبه بجزر ومحميات مستقلة داخل الدولة، تنهب الخزينة دون حسيب أو رقيب. ولا يشيرون إلى التهرب الضريبي أو ألأملاك البحرية والنهرية التي إستولى عليها كبار المسؤولين ومحاسيبهم، فهذه خطوط حمر ممنوع مسها أو حتى تدفيعها غرامات تمنعها عن دفع حقوق الخزينة عن أعمالها، المشرع منها أو غير القانوني. 

في المرة الوحيدة التي حاولت الدولة وضع سياسة إقتصادية وفي محاولته اليتيمة إرساء دولة المؤسّسات، في ستّينيات القرن الماضي، دعا الرئيس الراحل فؤاد شهاب العالِم الاقتصاديّ والإنمائيّ الأب لويس جوزف لوبريه، منشئ مؤسّسة "إيرفد" ورئيسها، لإنجاز عمليّة مسح شامل للأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة في لبنان، وضع بنتيجتها برنامجاً إنمائيّاً كان الأوّل من نوعه في لبنان بهذا المستوى العلميّ وهذه الشموليّة، لكنّه لم ينفّذ. وبالتالي، كان الأخير، لأن من سماهم شهاب "أكلة الجبنة" أي رجال السياسة الفاسدين، تصدوا له فترك لهم الحكم ورفض التجديد لعهده.

بعثة "إيرفد"، وضعت في العام 1961 الخطة الانمائية الوحيدة التي عرفها لبنان، ركّزت فيها على الزراعة ومحاربة الفقر وتقوية التعليم الرسمي واللامركزية الادارية وتحقيق العدالة الاجتماعية، باعتبار أن العمل الإنمائي هو الوسيلة الوحيدة لصهر اللبنانيين، تحت لواء الوطن لا الطوائف.

وهذه العناصر بالذات مرفوضة من قبل الطاقم السياسي الأسبق والحالي، لأنها تبني وطناً ودولة وتشكل خطراً على زعامات الطوائف ومرجعياتها. فكيف يتم دعم التعليم الرسمي مثلاً في وقت تفرض فيه "مافيا" التعليم الخاص بمؤسساتها الطائفية على الدولة إعطاء موظفيها بمن فيهم أساتذة التعليم الرسمي، منحاً تعليمية ليسجلوا أبنائهم في مدارس الإرساليات والجمعيات والمؤسسات الطائفية. وكيف يمكن أن تبنى دولة أذا كانت الأخيرة تمول مرجعيات الطوائف ومؤسساتها وتجير لهم أملاكها ومشاعاتها. وكل شيء في الدولة "عالسكين يا بطيخ" بين الطوائف والزعامات، فمن يجروء على مطالبة المتعدين على الأملاك البحرية والنهرية بالرسوم  المفروضة عليها بالقانون، أو ملاحقة التهرب الضريبي طالما أن "الأرباح" توزع بالعدل بين المرجعيات وأتباعها. حتى أن الوقاحة بلغت حد أن الحكومة مررت إعفاء شركات لأركانها بمئات ملايين الدولارات، هي غرامات على تمنعها عن دفع الرسوم المتوجبة عليها لخزينة الدولة، في الوقت الذي كانت فيه تشطب بند إرسال إكليل زهر لشهيد من موازنة الجيش. والحكومة نفسها ترفض شطب الميزانيات التي تقدمها للجمعيات الوهمية التي تديرها نساء الوزراء ونساء مرجعياتهم للترف والوجاهة وتعزيز المجهود الإنتخابي.

هي المحاصصة، حصة هذه الطائفة وتلك وغيرها، من لحم ودم وعرق الشعب اللبناني، التي تمنع ملاحقة الفساد ووئده. وما لم تصبح الدولة فوق الطوائف وأقوى منها لن يتخلص لبنان من الفساد ومن خطر الإفلاس الذي يطرق أبوابه.   


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل