ما هكذا تُورد الإبل يا «نون»؟

الخميس 28 آذار , 2019 12:00 توقيت بيروت مقالات مختارة

الثبات ـ مقالات مختارة

قيل إنّ كلمة إنسان أتت من النسيان، ولكن أن يبلغ النسيان نصف قرن من الزمان، فذلك أمرٌ يستدعي استغرابي بل استهجاني. في زاويتك المعهودة، بتاريخ الخامس من الجاري، كتبت تقول، تحت عنوان «الإصلاح بين المطار وتجربة الميدل إيست» ما يلي:

«وأثناء التحليق فوق الغيوم، وعلى ارتفاع 35.000 قدم، تتذكر كيف كانت هذه الشركة الوطنية الكبرى في حالة يُرثى لها من التردي والعجز الإداري والمالي، حيث كانت تُكلف الخزينة سنويا (85) مليون دولار على الأقل، وتستأجر طائرات مستهلكة وأسطولها لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة».. إلى أنْ، قيّض الله لها أن يرسل العبقري الأوحد الطفل المعجزة فسوى الأمر وأصبحت على ما هي عليه الآن من ازدهار ونجاح ليس له مثيل، والجملة المضافة هي من عندياتي.

في الفقرة السابقة هناك كثير من المغالطات لا بد من إيجاز بعضها كما سيرد لاحقاً. ولكن أن ترتكب أنت بالذات هذه المغالطات وأنت والعميد «رحمه الله» رافقتما تاريخ «الميدل إيست» بشكل شبه دائم فأمرٌ لا أستطيع وصفه سوى بالتنكر لتاريخ ناصع البياض لا تشوبه أي شائبة على مدى خمسين عاماً من التضحيات الهائلة التي قدمها موظفو وطيارو الشركة قبل رؤسائها الميامين. 

وآتي الآن إلى المغالطات التي أود أن أعددها لك كما يلي:

لم يكن في الشركة يوما عدد طائرات لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، بل كان عدد طائراتها يتجاوز عدد أصابع اليدين وأصابع القدم الواحدة وأكثر، من بينها طائرات البوينغ 747 الضخمة.

ليس هنالك في عالم الطيران تعبير طائرات مستهلكة. الطائرة لعلمك عندما تخضع للصيانة المستدامة تُجدد حياتها أي يُكتب لها عمراً جديداً. الفرق الأساس أن الطائرات الحديثة هي أقل كلفة من حيث مصاريفها كالبنزين Jet Fuel وتؤمن راحة أكبر للمسافرين.

أما حديثك عن أن الشركة كلفت الخزينة (85) مليون دولار سنويا فعجبٌ عجابْ!! أرجو أن توضحَ للقراء عن أي سنوات تتحدث، فتاريخ الميدل إيست الطويل يدُلُ على أنها حققت أرباحاً طائلةً خلال سنوات الهدوء في لبنان، وتكبدت خسائر كبيرة خلال فترات الأزمات والحروب التي ضربت البلد، وأود أن أُذكرك بأهم تلك الحوادث وهي:

حرب السويس عام 1956، إفلاس بنك إنترا عام 1966 الذي كان مالك الشركة الوحيد، إحراق معظم أسطول الميدل إيست إثر غارة العدو الصهيوني على مطار بيروت الدولي عام 1968، وغير ذلك من الحوادث الأقل شأناً وانتهاءً بالحرب الأهلية اللبنانية اللعينة والتي استمرت 15 عاما، أُغلق فيها مطار بيروت لمدة عامين ونصف العام بشكل متقطع. وخسرت الشركة بعض طائراتها نتيجة عدوان بعض الأطراف المحلية على مطار بيروت الدولي.

أما موقف الدولة من الشركة فيمكن أن أبدأ بالطرفة التالية: بعد إحراق طائرات الميدل إيست عام 1968 وضعت دولة المغرب طائرة بتصرف الحكومة اللبانية اعتقاداً منها أن الميدل إيست هي شركة حكومية، وقامت الدولة بتقديم هذه الطائرة إلى الميدل إيست، وكنّا للمغرب من الشاكرين. وإذ بنا نُفاجأ بعد عام من استعمال هذه الطائرة بمطالبة رسمية من الحكومة اللبنانية باقتسام الأرباح الناشئة عن تسيير هذه الطائرة وذلك بإعطاء الدولة 50 بالمئة من الأرباح!.

ولعلك تذكر أنّ الرئيس أمين الجميل نصّبَ روجيه تمرز رئيسا لمجلس إدارة أنترا، والذي كانت غايته الأساسية إجبار الميدل إيست على إيداع أموالها في مصرفه تمهيداً لسرقتها، ولعلك تذكرُ أيضا الاجتماع الذي عقدناه في منزلكم العامر أنت والعميد وحضره رئيس مجلس إدارة الميدل إيست سليم سلام والداعي، وقررنا فيه محاربة تمرز، ووضعتم أنتم جريدتكم الغرّاء بتصرّفنا كي نردَ على كل الاتهامات التي وجهها تمرز إلينا، ولم تنته القصة إلا عند تدخل حاكم مصرف لبنان حينها الدكتور أدمون نعيم الذي لا زلت أكن له الإحترام الكبير والذي أدى إلى هرب تمرز وانتقاله إلى خارج البلاد، ولعلك تذكر أيضا الحرب الشعواء التي شنها النظام على الميدل إيست ومجلسها الذي رئسته لرفضه الدمج بين الميدل إيست وال T.M.A وتدخلكما أنت والعميد «رحمه الله» لرأب الصدع وتلك قصة أخرى سأرويها بالتفصيل في ما بعد.

يكثرُ في لبنان المطبّلون والمزمرون والزحلطونيون والمرتشون الذين يعتاشون على ذم العهود السابقة والتعظيم بالعهود الجديدة. لم أحفل بهؤلاء قط، أما أنت يا «نون» فقد آلمتني أشد الألم بالفقرة التي سبق ذكرها، وأنت بنظري قامة هامة قلَّ نظيرها في ما تبقى من الصحافة اللبنانية. ولقد قسوت بعض الشيء، في الرد لا دفاعا عن نفسي ولا عن زملائي في مجلس الإدارة الذي رئست، فأنا والله راضٍ عن عملي وانتاجي في الميدل إيست لمدة أربعين عاما، ولكن دفاعا عن القامات الوطنية التي ترأست الميدل إيست من صائب سلام إلى نجيب علم الدين إلى أسعد نصر إلى سليم سلام، الذين انتقلوا إلى رحمة الله، ودفاعا عن عمال وموظفي وطياري الشركة الذين ضحوا بالغالي والثمين وبعضهم بأرواحهم في سبيل إبقاء شعلة الميدل إيست مشعة في أجواء لبنان والعالم.

وأخيرا لا بد لي من أن أذكر أنني في عام 1993 حضرت مؤتمرا في القاهرة، حضره أكثر من 25 شركة كبرى وصغرى منتمية إلى منظمة I.A.T.A. وكنت أحد المحاضرين، وما أن وصل دوري في الكلام حتى قاطعني أحد المدراء قائلا: «استميحك عذرا بالمقاطعة، ولكنني أود أن أقول لك وبصراحة أنه لو تعرضت أية شركة من الشركات الحاضرة أو الغائبة للظروف التي تعرضت لها شركتكم، لكنّا أفلسنا جميعا. أما أنتم فقد صمدتم، وكلمة مستحيل غير واردة عندكم، ولذلك أطلب من الحاضرين الوقوف والتصفيق لشركة طيران الشرق الأوسط،» وهذا ما حصل فعلا». لم أستطع الرد واغرورقت عينايَ بدموع الشكر والعرفان الذي لم تلقه الميدل إيست في وطنها الحبيب.

 

عبد الحميد فاخوري ـ اللواء

     

 

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل